هل من الممكن التمرد على قوانين الزمن؟ سؤال جال بخاطري أثناء استقلالي أحد الميكروباصات في رحلة صباحية اعتيادية، صعدت خلالها على متن ميكروباص انطلق من حدائق أكتوبر وتحديدا من شارع أحمد زويل متجها نحو محطة مترو المنيب، ولكن هذا اليوم كان له رونق خاص فبينما نتزاحم أنا والركاب في ممراته الضيقة، أدار سائق الميكروباص الزر الخاص بالتحكم في الصوت من 0 ل 36، ليملأ أجواء سيارته بصوت عذب انبعث من كاسيت قديم، صوت نادر كأنه معجزة لن يأتي الزمن بمثله، هو صوت السيدة أم كلثوم، كوكب الشرق التي أعشقها وأنا لم أرها، وهي تبدع في أغنية فات الميعاد.
فالست أيقونة موسيقية لا مثيل لها، وقمر لامع في سماء المشاعر فهي من لامست أغانيها شغاف القلوب، وأغرقتنا في بحر من الأحاسيس، وعبرت سيدة الغناء العربي عن مشاعر الحب والفراق والغدر بأسلوب لا مثيل له في أغنية فات الميعاد، من تأليف مرسي جميل عزيز، وتلحين بليغ حمدي، وتوقف عقلي عندما وصلت الست لمقطوعة "وقسوة التنهيد.. والوحده والتسهيد.. لسه ما همش بعيد.. وعايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان.. وهات لى قلب لا داب ولا حب.. ولا انجرح ولا شاف حرمان"، لأسرح بخيالي عن كيف قررت كوكب الشرق التمرد على قوانين الزمن، ووضعت شروطًا للعودة "زي زمان" شروطًا تُعجز حتى السحرة؟
تصور لي الأغنية مشهدا خياليا، كأنني شاب ثلاثيني، من الزمن الجميل وأنا أضع يدي علي خدي وكلى أذان صاغية للست، وعيني باتجاه المسرح التي تقف عليه أم كلثوم، وهي متألقة بثوبها المطرز، وشعرها المنسدل، وعيونها المعبرة تنظر إلى الحاضرين، تبدأ الغناء بصوتها العذب، لكن كلماتها ليست كلمات أغنية عادية، بل هي شروط صارمة لعودة الزمن إلى الوراء، عودة تبدو مستحيلة تماما.
أول شروطها؛ "وعايزنا نرجع زي زمان، قول للزمان ارجع يا زمان"، فيا للهول!! هل تظن أم كلثوم أن الزمن لعبة بيدها؟ تطلب من عقارب الساعة أن تدور للخلف، ومن الأيام أن تعيد نفسها؟ لأقول لها بصوت جهوري مستحيل يا سلطانة الطرب، فالزمن لا يعرف الرجوع، وقطار الماضي قد رحل بلا رجعة-.
ولكنها لا تتوقف عند هذا الحد، بل تضيف شرطا آخرًا، "وهاتلي قلب لا داب ولا حب، ولا انجرح ولا شاف حرمان"، فهي تريد قلبا جامدا لا يعرف المشاعر، لا يذوب مع العشق، ولا يتألم من الفراق، فيا لقسوة هذا الشرط! فما معنى الحياة دون حب ودمع وشوق؟
وتكمل أم كلثوم سرد مظالمها، مبررة صرامتها، "بيني وبينك هجر وغدر، وجرح في قلبي داريته"، لتشير كوكب الشرق إلى خيانة وهجر جرحا قلبها وألما بها، فهل تظن أنها ستنسى بسهولة وتعود "زي زمان" وكأن شيئا لم يكن؟
ولكنها لم تنته بعد، بل تضيف المزيد من الحطب إلى نار العتاب وتقول "بيني وبينك ليل وفراق وطريق أنت اللي بديته"، فهنا تذكر الحبيب بليالي الفراق الطويلة، وبالمسار الذي اختاره بنفسه بعيدا عنها فكيف تطلب منه العودة بعد كل ما حدث؟
وأخيرا، تؤكد أم كلثوم موقفها الحازم وتقول "فات الميعاد فات الميعاد"، وكأنها قررت لا عودة للوراء، ولا مجال للمصالحة معلنةً لقد انتهى زمن الحب، وبقي فقط زمن الجراح والعتاب.
وبينما أنا غارق في عشق كوكب الشرق وعظمة أغنيتها الشهيرة فات الميعاد، أجد سائق الميكروباص يقول لي "يا بيه هتدفع الأجرة ولا مش معاك؟.. إحنا وصلنا المترو وأنت ولا هنا.. الناس كلها دفعت وباقي أنت"، لم أجد كلمات مناسبة للموقف سوى الإعتذار ودفعت الأجرة وتركت السيارة وأنا أدندن بكلمات الأغنية حتي وصلت لمقر عملي، وفتحت اللاب توب الخاص بي، وبدأت كتابة كلماتي التي انتهت بسؤال حير عقلي! هل ترى أن أم كلثوم نجحت في فرض شروطها؟ أم أن الزمن ظل صامتًا عن نداءاتها؟، لكن لا عليك يا عزيزي فمهما كان الجواب، تبقى أغاني أم كلثوم تحفة فنية خالدة، تلامس قلبي وتثير مشاعري بعمق لا مثيل له، حتى لو كانت مستوحاة من قصص حب مستحيلة، فهي مزيج متقن من الكلمات المعبرة، والألحان المؤثرة.