شهدت السياسة التجارية الأمريكية إعادة صياغة منذ ما يقرب من عقد من الزمان، على أيدي روبرت لايتهايزر، الممثل التجاري للرئيس السابق دونالد ترمب، والتي كانت سياساته قائمة على نبذ ستة عقود من الدعم لنظام تجاري متعدد الأطراف قائم على القواعد، والتوجه نحو نهج "قومي قوي".. كما أن كاثرين تاي، خليفة لايتهايزر في عهد الرئيس جو بايدن، واصلت السير على المسار الذي رسمه لايتهايزر بنفسه.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أنه على الرغم من أن معظم المسؤولين السابقين في إدارة ترمب أدانوه باعتباره غير مؤهل ليكون رئيسا مرة أخرى، إلا أن لايتهايزر حافظ على ثقته في ترمب، باعتبار أنه يستطيع تحقيق بعض الصالح العام الأكبر للولايات المتحدة. لذا، فإن لايتهايزر لا يزال يعمل كأحد كبار مستشاري ترمب السياسيين في حملة عام 2024، وسيكون مستعدا لوظيفة أكبر - وزير الخزانة على الأرجح - إذا فاز ترمب في انتخابات نوفمبر المقبل. ويبدو أن مهمة لايتهايزر، المتمثلة في تحويل ليس فقط السياسة التجارية للولايات المتحدة، بل السياسة الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة الأوسع، قد بدأت للتو.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن تأثير لايتهايزر وسياساته كان واضحا بالكامل الشهر الماضي، عندما سافر بايدن إلى المقر الرئيسي لاتحاد عمال الصلب، وهو أكبر اتحاد صناعي في أمريكا الشمالية، في بيتسبرج، في ولاية بنسلفانيا التي تمثل ساحة معركة سياسية مهمة، حيث في أعقاب الزيارة، أعلنت الإدارة الأمريكية عن خطط لزيادة الرسوم الجمركية بشكل كبير على بعض الواردات الصينية، والتي فرضها ترمب لأول مرة، بناء على طلب من لايتهايزر. كما أنه بعد مراجعة أجراها مكتب تاي (الممثل التجاري للرئيس بايدن)، فرضت الإدارة تعريفات بنسبة 100% على السيارات الكهربائية الصينية المستوردة، ورفعت الأسعار على أشباه الموصلات صينية الصنع، وبطاريات الليثيوم أيون، والخلايا الشمسية، والصلب، والألمونيوم.
كما أطلق مكتب تاي تحقيقا جديدا بموجب المادة 301 من قانون التجارة الأمريكي -وهي أداة تعود إلى حقبة السبعينيات من القرن الماضي من الأحادية التجارية الأمريكية والتي أعادها لايتهايزر، وتمنح السلطة الواسعة للحكومة الأمريكية للتحقيق والرد على الممارسات التجارية غير العادلة- بشأن الدعم الصيني لصناعة بناء السفن. ومن المرجح أن يتبع ذلك المزيد من التعريفات. وكان لايتهايزر نفسه ينصح ترمب بخفض قيمة الدولار الأمريكي القوي إذا تم انتخابه من أجل تعزيز الصادرات الأمريكية، وهي النصيحة التي تم قراءتها على نطاق واسع باعتبارها اختبارا لمنصب وزارة الخزانة.
ويشكل تنامي نفوذ لايتهايزر تحذيرا لشركاء الولايات المتحدة التجاريين، من أن "النزعة القومية العدوانية التي تتسم بها سياسات ترمب التجارية ليست مرحلة عابرة"، وأنه سيبقى صوتا يحث سياسات الولايات المتحدة للابتعاد عن "قواعد التجارة الحرة متعددة الأطراف".
والمعروف أن لايتهايزر، ولد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقضى حياته المهنية كمحام لحماية صناعة الصلب الأمريكية ضد المنافسة الأجنبية، والذي يعتبر قطاعا أساسيا للولايات المتحدة. وتكشف سياساته أن الدروس التي تعلمها من صناعة الصلب أن شركاء الولايات المتحدة التجاريين سينخرطون في ممارسات استغلال لتحقيق أكبر استفادة لإغراق السوق الأمريكية ولو بأقل من تكلفتها، وهو ما يتسبب بسرقة الوظائف من الاقتصاد الأمريكي وإفراغ الصناعة في البلاد من مضمونها.
وفي عام 2023، أصدر لايتهايزر كتابا بعنوان "لا تجارة حرة" فيما يمثل إدانة شديدة لعقود تتحدث عن فوائد تحرير التجارة. لذا، مع عودة لايتهايزر إلى السلطة، لن يصبح اهتمام الولايات المتحدة –وفقا لفورين بوليسي- أن يبقى اقتصادها ضابطا لاستقرار الاقتصاد العالمي، ولكنه سيكون أكثر اهتماما بملاحقة "المصالح الاقتصادية الضيقة" لأمريكا، وستتوفر لدى لايتهايزر من أدوات السياسات الاقتصادية ما يتيح له ذلك.
ودللت المجلة الأمريكية على ما ساقته بالإشارة إلى أنه بصفته الممثل التجاري لترمب طوال السنوات الأربع بأكملها من فترة ولايته -وهو إنجاز نادر في ظل رئيس متقلب- تمكن لايتهايزر من تحويل الولايات المتحدة إلى مسار مختلف. فقد فرض تعريفات جمركية تصل إلى 25 في المائة على واردات الصلب والألومنيوم من معظم أنحاء العالم، وفرض تعريفات مماثلة على ثلاثة أرباع صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، وأجبر كندا والمكسيك بقوة على إعادة التفاوض بشأن اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وقد حظيت هذه التحركات بشعبية كبيرة في الداخل، حيث احتشد الديمقراطيون خلف الاتفاقية الجديدة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا بسبب البنود التي شددت على إنفاذ قانون العمل وتطلبت المزيد من الإنتاج في الولايات المتحدة. كما أبقى فريق بايدن الرسوم الجمركية الصينية سارية، على الرغم من المعارضة الأولية القوية من وزيرة الخزانة جانيت يلين.
ولفتت المجلة إلى أن المقياس الرئيسي الذي يستخدمه لايتهايزر هو المقياس الذي نادرا ما ينتبه إليه الاقتصاديون التقليديون، وهو: العجز التجاري، حيث تعاني الولايات المتحدة من عجز في السلع والخدمات كل عام منذ عام 1975، وصل إلى 951 مليار دولار في عام 2022. وعلى الرغم من أن أغلب خبراء الاقتصاد يعتبرون العجز التجاري نتيجة لمعدلات الادخار الوطني، إلا أن لايتهايزر يختلف مع هذا الرأي، حيث يرى العجز بمثابة تحويل مباشر لثروة الولايات المتحدة إلى المنافسين، وأهمهم الصين، والذي يمكن تصحيحه من خلال الإجراءات الحكومية القوية.
لذلك، سيجعل لايتهايزر من هدف السياسة الأمريكية تحقيق التوازن التجاري مع بقية العالم، وليس الصين فقط. وإن الآثار المترتبة على ذلك ستكون هائلة. وتتمثل إحدى الأدوات، التي اقترحها لايتهايزر على ترمب، هي بذل جهود متضافرة لتخفيض قيمة الدولار الأمريكي أمام العملات الأخرى، وهو ما من شأنه تعزيز الصادرات الأمريكية، ويجعل الواردات أكثر تكلفة بالنسبة للأمريكيين، مما يساعد على معالجة العجز التجاري.
ويدعو لايتهايزر كذلك إلى إجراء إصلاح شامل للنظام الضريبي في الولايات المتحدة لتعزيز القدرة التنافسية للتصنيع في الولايات المتحدة، حيث تضررت الصادرات الأمريكية منذ فترة طويلة بسبب النظام الضريبي الذي يجبر الشركات الأمريكية على دفع ضريبة دخل وضريبة القيمة المضافة على مبيعاتها في أوروبا، في حين تقوم أوروبا ومعظم البلدان الأخرى بإعفاء شركاتها من ضرائب القيمة المضافة على مبيعاتها من السلع والخدمات التي تغادر البلاد، وهو ما يضع المنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة في وضع تنافسي غير موات.
لكن أداة لايتهايزر المفضلة –وفقا لفورين بوليسي- هي التعريفات الجمركية. ففي مقال له بمجلة الإيكونوميست في مارس الماضي دفاعا عن خطة ترمب المعلنة لفرض رسوم جمركية جديدة شاملة إذا تم انتخابه، قال إن "التجربة الجريئة" للولايات المتحدة في إلغاء الرسوم الجمركية "قد فشلت"، وإن هناك حاجة إلى تعريفات جديدة بنسبة 10% على الأقل في جميع القطاعات، بالإضافة إلى بعض الرسوم الأعلى والأكثر استهدافا، "لخفض العجز التجاري الأمريكي وتسريع عملية إعادة التصنيع".
وترى المجلة الأمريكية أن تأثير لايتهايزر سيظل قائما، بغض النظر عمن سيفوز في انتخابات نوفمبر، حيث إن مجالات الأرضية المشتركة بين لايتهايزر والديمقراطيين أعمق بكثير مما يدركه معظم الناس. فعلى سبيل المثال، إذا ما نظرنا إلى تغير المناخ، حيث يشكك العديد من الجمهوريين، بما في ذلك ترمب، في العلم ويعارضون أي إجراءات حكومية للحد من استخدام الوقود الأحفوري، فإن لايتهايزر يفضل بقوة فرض رسوم جمركية إضافية على الواردات الغنية بالكربون، وهي السياسة التي بدأ الاتحاد الأوروبي في تطبيقها بالفعل ويتم استكشافها الآن بجدية من قبل إدارة بايدن. ويفضل لايتهايزر فرض ضريبة تعريفات إضافية على المنتجات كثيفة الانبعاثات بما في ذلك الأسمنت والأسمدة والألومنيوم بحجة أن القيام بخلاف ذلك يعني مصلحة البلدان المنتجة للسلع "التي تستخدم قدرا من الكربون أكبر كثيرا مما قد نتسامح معه".
وأخيرا، فإن تأثيرات لايتهايزر والشعبية المتزايدة للحمائية في كلا الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) تشير إلى أن هناك الكثير من الأحداث في المستقبل، وأنه إذا تفاعلت دول أخرى بالمثل حيال الحمائية التجارية، وهو أمر مؤكد، فمن السهل تصور ذلك النوع من الحروب التجارية وحروب العملة المدمرة التي لم تحدث منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
العالم
"فورين بوليسي": لايتهايزر.. وزير الخزانة المحتمل الذي سيساعد ترامب على قلب الاقتصاد العالمي
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق