واحدة من الإشكاليات التى تواجه الباحثين الجدد فى مجال الدراسات الإسلامية، وربما حال اعتراض أحد هؤلاء الباحثين على فكرة أو مفهوم الإجماع تجعله فى مرمى نيران الجماعات المتشددة على اختلاف مشاربها.. ليس هذا فقط بل أيضا فى مرمى نيران الكثير من مؤسساتنا الدينية، وبينما جاء القرآن مؤكدًا على الفردية ومسئولية الفرد عن أفعاله، وأنه المسئول الأول أمام الله فى الدنيا والآخرة عما اقترف أى أن الله لن يسأل أولى الأمر عنا ولكن سنحاسب كأفراد، فيقول تعالى: “فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ” (الأنعام:١٠٤)، “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ” (فاطر:١٨)، “مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا” (فصلت:٤٦).
بل ويؤكد القرآن على عدم احتياج الفرد للوصاية بل على العكس فقد كشف القرآن أن الوصاية وإتباع الفرد للجماعة أو الأوصياء يكون فى بعض الأوقات طريق للهلاك، فيقول تعالى “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا” (الأحزاب:٦٧)، “إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ” (البقرة:١٦٦)، “إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا” (الجاثية:١٩).
ولكن المنظومة الفقهية على طرف النقيض من الرؤية القرآنية، فالمنظومة الفقهية لا تعترف إلا بالجماعة والتى يكون الفقهاء على رأسها يشكلون سلطة على العامة تأبى الخلاف من ناحية وتريد تعميم أحكامها على المجتمع والناس من ناحية أخرى.
وسلطة الفقهاء تستند إلى المفهوم الإشكالى إلى أبعد الحدود وهو مفهوم الإجماع، فالإجماع هو سلطة جماعة الفقهاء، سلطة تتجاهل الفردية والفرد ولا تراه إلا جزءًا من الجماعة، ولا يقف الأمر عند حد التجاهل بل يتم سلب الفرد حقه فى المشاركة فى العملية التشريعية استنادا إلى تلك السلطة.
ومن أهم من ناقش هذا المفهوم الإشكالي فى عصرنا الحديث الشيخ على عبد الرازق الذى اشتهر بكتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذى يرى البعض أنه يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، بينما يرى البعض الآخر أنه أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة فى الإسلام، بل ترك الله الحرية فى كتابه للمسلمين فى إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، والكتاب أثار ضجة بسبب آرائه فى موقف الإسلام من "الخلافة" حيث نُشِر الكتاب فى نفس فترة سقوط الخلافة العثمانية وبداية الدولة الأتاتركية، بينما كان يتصارع ملوك العرب على لقب "الخليفة"؛ رد عليه عدد من العلماء من أهمهم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر بكتاب "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم" ثم سحب منه الأزهر شهادة العالمية، وهو ما اعتبره الكثير من المفكرين ردًا سياسيا من الملك فؤاد الأول ملك مصر وقتئذ، وشن حملة على رأيه.
وأصدر الشيخ على عبد الرازق كتابًا آخر يناقش فيه قضية من أهم قضايا الفقه الإسلامى وهى قضية "الإجماع"، والذى يعد المصدر الثالث للتشريع الإسلامى بعد القرآن والسنة.
حيث اختلف الأصوليون فى تعريف الإجماع اصطلاحًا تبعًا لاختلافهم فى كثير من مسائل الإجماع المتعلقة بأركانه وشروطه وأحكامه.
والتعريف المختار أن الإجماع هو: اتفاق مجتهدى الأمة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى عصر على أى أمر كان.
وحسب الشيخ على عبد الرازق لكى يتضح هذا التعريف فلا بد من شرحه وذكر محترزاته:
فاتفاق معناه: الاشتراك فى الرأى أو الاعتقاد، سواء دلّ عليه الجميع بأقوالهم جميعًا، أو بأفعالهم جميعًا، أو بقول بعضهم وفعل بعض، وهذا كله يسمى بالإجماع الصريح، أو بقول بعض أو فعله مع سكوت بعض آخر، وهذا يسمى بالإجماع السكوتي، وبهذا يكون التعريف شاملًا لقسمى الإجماع: الصريح والسكوتي.
أما مجتهدو الأمة، فالمجتهد: هو الذى يبذل وُسعه فى طلب الظن بحكم شرعى على وجه يُحس معه بالعجز عن المزيد عليه.
والأمة: هى الطائفة من الناس تجمعها رابطة، والمراد بها: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: أتباعه المؤمنون به فى أى زمان، وهم أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
وقد خرج باتفاق مجتهدى الأمة:
١- اتفاق المقلدين والعوامّ؛ فإنه لا يعد إجماعًا شرعيًا.
٢- اتفاق بعض المجتهدين؛ فإنه لا يعد إجماعًا.
٣- اتفاق مجتهدى غير هذه الأمة.
ليس هذا فقط بل يقوم الشيخ على عبد الرازق على امتداد صفحات الكتاب بعرض الآراء المختلفة للعلماء فى ذات الموضوع، فيسوق آراء وحجج من أنكر إمكان الإجماع ويناقشها ويقدم لحججهم مستدعيا كلمة الإمام أحمد بن حنبل ومقولته المشهورة: من ادعى الإجماع فهو كاذب. ليوضح أنه ليس مراده بها نفى وقوع الإجماع أو حجيته قطعًا؛ لكون الإمام يحتج به، ويستدل به فى كثير من الأحيان، وقد حملها العلماء على عدة أوجه، ومن أحسنها: أنه قال ذلك على سبيل الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو أنه قال ذلك فى حق من ليس له من معرفة بخلاف السلف، ويدل لذلك تتمة كلامه السابق حيث يقول: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسى والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، إذا هو لم يبلغه.. أى إذا لم يبلغه فى المسألة خلاف.
لا خلاف بين العلماء فى وقوع الإجماع على الأحكام التى تعلم من الدين بالضرورة، ولكن وقع الخلاف فى وقوع الإجماع فى الأحكام الظنية، على مذهبين:
المذهب الأول: إمكان وقوع الإجماع فيها، وإلى هذا ذهب الجمهور، وهو الصحيح، وليس أدل على ذلك من الوقوع، وأمثلة وقوع الإجماع كثيرة، مثل الإجماع على تقديم الدَّيْن على الوصية، وحرمة شحم الخنزير كلحمه، والإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه أو طعمه أو رائحته بنجاسة، لا يجوز الوضوء منه.
المذهب الثاني: أن هذا الإجماع مستحيل الوقوع، وذهب إليه النظام المعتزلي، وإمام الحرمين، وكثير من المعاصرين، واستدل لأصحاب هذا المذهب على ذلك بأن أهل الإجماع قد انتشروا فى مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الانتشار يمنع نقل الحكم، منهم وإليهم عادة، وإذا امتنع نقل الحكم امتنع الاتفاق منهم على حكم معين، ويجاب عن ذلك بأن أهل الإجماع عدد قليل معروفون بأعيانهم، وهم المجتهدون، وعليه فيمكن أن تنقل الواقعة إلى جميعهم، ويستطلع رأيهم فيها.
نستخلص مما تقدم وما يريد قوله الشيخ على عبد الرازق أن الإجماع كمصدر مهم من مصادر التشريع الإسلامى به خلاف بين العلماء فى معظم جوانبه بداية من تعريفه وانتهاء بوجوبه والاستناد إليه.