يعتبر كثير من النقاد الذين تناولوا الأدب الأوروبي خلال القرن التاسع عشر رواية "الأب جوريو" للكاتب الفرنسي أورنوريه دى بلزاك، درة الرواية الواقعية في العالم. حيث خلت من الرطانة اللغوية أو الإنشائية، فقد وضع فيها العالم وشخوصه وعلاقته كما هي تتخبط في مصائرها الأليمة، التي صنعتها بنفسها، أو بالموضوعات الاجتماعية، باحثة عن مخرج أو مهرب.
تم نشرها في مجلة باريس الأدبية في عام 1834، ثم ظهرت مطبوعة في المكتبات عام 1835، لتصوّر جزء من مشاهد الحياة الباريسية في الملهاة الإنسانية، واعتبر البعض "الأب جوريو" هو من وضع أساس الكوميديا الإنسانية كبناء أدبي فريد من نوعه.
تحكي الرواية عن أوجين دي راستنياك الذي ينحدر من أسرة متواضعة، وهو طالب مثالي إلى حد ما، وطموح جدًا. كان يدرس بكلية الحقوق، ويعيش في نزل بسيط في باريس مع الأب جوريو. وبينما يقرر الشاب تأجيل دراسته محاولًا التغلغل في المجتمع الباريسي، ويختار -بمباركة الأب جوريو أن يقيم علاقة غرامية مع إحدى بناته.
أمّا الأب جوريو، فهو رجل عجيب يدعى "جان يواكيم جوريو"، والذي ضحى بكل شيء في سبيل ابنتيه، وهو صانع بسيط في مصنع للإطارات وكان عاملًا نشيطا وذا إقدام، ما أتاح له ذلك أن يشتري مصنع معلمه بعد أن لقي هذا الأخير حتفه.
وكان جوريو يتعامل في تجارته بحذق الدبلوماسي وتأهب الجندي، ما أتاح له أن يصبح من الأثرياء ولكنه حينما كان يخرج من دائرة اختصاصه ويبتعد عن حانوته يعود إلى ذلك الصانع البسيط والرجل المغفل الذي لا يستطيع أن يجد له لذة في شيء سوى عاطفة واحدة كانت تملك عليه لبّه وهي العاطفة العائلية.
تضخمت عاطفة الأبوة عند جوريو حد الهوس بعد فقدانه لزوجته، وانتقلت هذه العاطفة بكاملها إلى ابنتيه "أنستازيا" و"دلفين"؛ لذلك أبى أن يتزوج ثانية بالرغم من العروض المغرية التي قدمت له، فكانت كل سعادته قائمة على تحقيق رغبات ابتنيه مهما كانت، ولم يكن يطلب مقابل كل ذلك سوى كلمة لطيفة أو قبلة عارضة، وحين بلغتا سن الزواج استطاعت كل منهما أن تنتخب العريس الذي أرادت.
هكذا، جاءت تفصيلات الرواية لتدين المجتمع الباريسي المتيم بالمال والنزعة الربحية، وعلاقة العد والنقد، محولًا شخصيات الرواية إلى عبيد لأكياس النقود الذي يصبح الآمر الناهي في حياتهم؛ إذ تغدو لغة المال وفلسفته هي الغاية الأقصى والأسمى في هذه العلاقات التي تربطهم، ويتلاعب كبهلوان بأخلاقياتهم ومصائرهم، حيث اللجوء والنزوح والركض خلفه، خوفا من فقدانه أو ضياعه.
أيضًا، قدّم بلزاك المال في الرواية باعتباره الصورة الأبهى للخراب الروحي والشتات الأسري وتفكك العلاقات بين الآباء والأبناء، ثم بين الأزواج مخيما وجاثما بصولجانه الأبدي الغاشم على صدورهم، وهو أصل المساواة والآلام التي تحاصر شخصيات "الأب جوريو". مع هذا، لم يمنحهم المال خلاصا أو حتى محاولة إبحار في بحر الطمأنينة والسلام.