كانت أوروبا قبل 225 عامًا تستقبل الصرخات الأولى لـ "أورنوريه دى بلزاك"، المولود في العاصمة باريس في 20 مايو 1799، والذي صار بعد سنوات أحد أهم رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، وأسس مع رفيقه "جوستاف فلوبير" تيار الواقعية بالأدب الأوروبي.
عاش بلزاك طفولة قاسية بسبب أمه التي كانت أصغر من أبيه بـ 32 عاما، وتزوجته رغما عنها، وعاملت أبناءها بقسوة وبحدة. ووصفها بأنها "الرعب والهول مجتمعين"، وحمَّلها سبب أية معاناة بحياته.
لهذا كتب: "الرجل صنيعة أمه، والبيوت بلا أمهات صالحات قبور"، وكتب أيضًا: "قلب الأم هوة عميقة ستجد المغفرة دائما في قاعها". ومن الواضح أنه لم يتذكر لأمه أي مغفرة.
حصل بلزاك على شهادة الحقوق لكنه رفض العمل بها، وأصر على احتراف الأدب وعانى كثيرا لإقناع أسرته بذلك، وتحمل سنوات الفقر الشديد والحياة بالغة القسوة وأحس بأوجاع الفقراء وتعاطف معهم.
وللخلاص من سيطرة أمه المادية عليه، وتهديدها له بإجباره على ترك الأدب، لجأ بلزاك لتأجير نفسه لكتابة أي شيء يُعرض عليه"، فقط للحصول على أي مال حتى لا يضطر لترك الكتابة، واستمر على ذلك عدة سنوات.
بدأ بلزاك الكتابة في سن العشرين، ثم تمرد على نفسه وعلى السائد في الكتابة بعصره، الذي كان مليئًا بروايات تتضافر فيها الخرافات والواقع، مع مبالغة الحكي وعدم حبكة الرواية. ورغم أنه كان واحدًا ممن مزجوا الواقع بالخرافة، إلا أنه وضع في سنواته الأخيرة أسس الرواية الحديثة الواقعية.
ولأنه القائل "إذا كان الجمال هو الذي يثير الحب فإن الحنان هو الذي يصونه"، فقد تزوج كونتيسة ظل يتودد إليها 17 عاما.
عُرف الكاتب الفرنسي الكبير بدقته في وصف التفاصيل، فجعل القارئ يعيش الرواية؛ كما أتقن الحبكة، وانفرد بأسلوبه، وتميز بالتحليل الفلسفي بمعظم رواياته، وتمكن من أدواته الروائية بجدارة، وبرع بتجسيد الحياة بعصره اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. كما عُرف عنه الغزارة الشديدة في الإنتاج.
لمكابدته الألم، كان الأديب الفرنسي المرموق شديد الاحترام للوجع الانساني، وبرع في وصفه ونجح في نقل تعاطفه معه للقارئ. وبعد أن فارق الحياة في 18 أغسطس 1850، فوجئ الكثيرون بعد موته بعشرات الكتب التي لم ينشرها، حيث قيل إنه كان يكتب لمدة 18ساعة يوميا، وبعض رواياته نشرها مسلسلة بالصحف قبل صدورها كتبا بعد ذلك.
كتب بلزاك تسعين رواية، وعشرات القصص القصيرة، ومائة قصة فكاهية، وبعض المسرحيات، وتُرجمت رواياته لمعظم لغات العالم وتحول بعضها لأفلام سينمائية ومسرحيات،
اهتم بلزاك بالرواية الخيالية، فكتب "الجلد المسحور"، ومن أهم إبداعاته "أوجينى جراندي، الأب جوريو، زنبق الوادي"، و"الكوميديا الإنسانية" التي صدرت في 37 مجلدًا، وصوّر فيها المجتمع الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وفي رواية "لويس لامبير" -التي كتبها في شهر ونصف الشهر فقط- تناول بلزاك الفروق الجوهرية بين الجنون والعبقرية، وكان ذلك قبل تعريف الطب النفسي لها؛ كما كتب ما يسمى بـ "الرواية السوداء"، وهي التي يكثر فيها الحديث عن القراصنة وما شابه مع المغامرات المثيرة، وتعد تلك النوعية من الروايات بدايات للرواية البوليسية.
ومن إبداعات بلزاك الخالدة، رسائله الخاصة التي تم جمعها في مجلدات، ومنها ما كتبها لأمه ولصديقاته ولزوجته، والتي كشفت الكثير عن تفاصيل حياته الشخصية وحياة الفرنسيين العادين في ذلك العصر.