تمر الديمقراطيات الليبرالية الكبرى، في عالم اليوم، بدرجة غير مسبوقة من التأزم، على المستويين المحلى والدولي، من حيث الممارسات المرصودة ومن حيث القيم والغايات المنشودة. وعلى نطاق أوسع ظل النظام العالمي الليبرالي، الذي أنشأنه ودافعت عنه هذه القوى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي ظن الجميع أنه بانتهاء الحرب الباردة لمصلحة قوى الديمقراطية الليبرالية حقق انتصارًا وصل بالإنسانية إلى "نهاية التاريخ"، كما زعم فرانسيس فوكو ياما، ظل هذا النظام – منذ التسعينيات، وفى أوج "شهر العسل الليبرالي" – موضع تساؤل من قبل الليبراليين أنفسهم. من هنا تأتى أهمية كتاب "إعادة النظر في النظام الدولي الجديد "Rethinking the New World Order، لمؤلفه يورغ سورنسن Georg Sorensen أستاذ العلوم السياسية ونظم الحكم في جامعة آرهوس Aarhus University الدنماركية، والذي نقلة إلى العربية أسامة الغزولى.
بنهاية الحرب الباردة انتهى أيضا النظام العالمي أو النظام الدولي كما عرفناه: التعادل الثنائي القطبية بين قوتين عظميين وحلفائهما. أنهي نظام تفكك الاتحاد السوفيتي ذلك النظام، عمليا، فاتحا الطريق أمام – ماذا على وجه التحديد؟ يقينا لم يكن الامر واضحا في ذلك الحين، ومن الغريب أنه ليس واضحا الآن، بعد مرور أكثر من ربع قرن.
ومن المفهوم أن اول رد فعل كان التفاؤل الليبرالي، وإن كان هناك ما يمكن قوله فهو ينحصر في أن الاحداث أشارت إلى انتصار اتسم بتبجح الليبرالية السياسية والاقتصادية بأنه آن الأوان لأن تحتوي الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الليبرالية العالم بأسره، وأن يتبع ذلك، بعد حين، السلام والتعاون والأمن والنظام والقيم المشتركة والرفاه، بل ورغد العيش للجميع.
لكن رد الفعل التالي كان أكثر تشاؤما وأكثر تشككا، بكثير، ظهر ذلك في بواكير التسعينيات من القرن الماضي، حتى إن كان ذلك العقد فترة (شهر العسل) الليبرالية بآمالها العِراض. توقع الباحثون الواقعيون أن ينفجر العداء بين الأصدقاء القدامى بعد أن اختفى العدو المشترك. وفى الوقت نفسه، نتج عن الخُيلاء الليبرالية شكل متبجح من العالمية الليبرالية التي بلغت مستوى الإمبريالية. وساعد هذا المسلك على إنتاج صدام بين الحضارات، مع تزايد احتمالات الصراع، على الفوالق بين الحضارات. وأصبح الانقسام المركزي هو ذلك الذي يفصل بين الدول الغربية من جهة، والدول / الحضارات الإسلامية والكونفوشية، من جهة مقابلة.
لكن التفاؤل الليبرالي لم ينل منه الإحباط، دفع أحد المحللين في أواخر التسعينيات من القرن العشرين إلى أن الاقتصادات المتزايدة النضج سوف يتعين عليها الدخول في شبكات تعاونية أكثر إحكاما. وكان المتوقع أن تبقى الدول الوطنية بإعتبارها وحدات رئيسة في السياسة الدولية، مع اضطرارها إلى التعاون بغرض تأمين مظلة حماية لاقتصاد معولم.
ثم غير الحادي عشر من سبتمبر 2001 الأجندة الدولية. وأطلقت الدولة القائدة، وهي الولايات المتحدة، حربًا عالمية على الإرهاب، أفضت إلى تدخلات في أفغانستان والعراق. أصبح الإرهاب الدولي قضية أمنية رئيسة. وفى وقت لاحق من ذلك العقد تبين أن الاقتصاد المعولم ليس حجر الأساس الراسخ للعالم القائم على التعاون الذي تصوره بعض الليبراليين. وسببت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في العام 2008 اضطراب النظام الاقتصادي بكامله وإن كانت الاقتصادات الراسخة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية الأكثر تضررًا، لم يُصب الاقتصاد العالمي بانهيار تام، ولكن من المحتمل أن الأزمة لم تنفض بعد، لكنها كانت خطيرة بما يكفي لأن تطلق مناظرة حول النموذج الرأسمالي الأنسب، خصوصا حول العلاقة الصحيحة بين قوى السوق الحرة والضوابط السياسية.
وفى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والشعرين وصفت مجلة تايم Time Magazine العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأنه "عَقد من الجحيم"، السنوات "الأكثر إثارة لليأس" في حياة الأمريكيين، منذ الحرب العالمية الثانية. وراح المتشككون يكررون رسالتهم: نهاية التاريخ حلت محلها عودة التاريخ. لم تختفِ المنافسات العنيفة الطابع بين القوى العظمى، وبدلا من ذلك أصبحت أشد وطأة، خصوصا بين الدول الليبرالية والأوتوقراطية، في سياق عودة الصراع بين الإسلاميين الراديكاليين وبين الثقافات والقوى العلمانية الحديثة.
وبقي المتفائلون الليبراليون على اختلاف قدم واحد من المراقبين الليبراليين نظرية حول الامتزاج تقول بأن قوى لها أهميتها تدفع بالإنسانية في اتجاه مزيد من التقارب، في اتجاه تخليق عالم واحد يتألف من مواطنين عولميين. والعوامل الرئيسة في عملية الامتزاج العولمى هذه هي العولمة الاقتصادية والتحولات التكنولوجية والطموحات المادية المشتركة والمخاطر البيئية التي تهددنا جميعا.
إن الفجوة بين المتفائلين الليبراليين والمتشككين الواقعيين هي الفالق الرئيس في المناظرة حول النظام الدولي. فالمتفائلون الليبراليون يتطلعون إلى عمليات تعاون وإلى امتزاج وقيم مشتركة في عالم تتنامى فيه الليبرالية، ويؤكد المتشككون الواقعيون الصراع والتنافر وغياب القيم المشتركة في سياق تَبارٍ وتنافس.
ومن المؤكد أن المناظرة بين المتفائلين الليبراليين والمتشككين الواقعيين سوف تتواصل. فتطورات العالم المعيش لا تكف عن توليد أحداث تؤكد وجهه النظر هذه أو تلك. لكن طبيعة الوقت الحاضر تحتم إعادة النظر: فبعد أكثر من عقد من الآمال الليبرالية، بعد نهاية الحرب الباردة، أخلت مكانها لأكثر من عقد من التهديدات الأمنية الجديدة، ولكثرة من الصراعات العنيفة، ولأزمة اقتصادية قاسية، فأين نحن اليوم، بالضبط، فيما يتعلق بالنظام الدولي؟.
وللحديث بقية..