ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أنه على مدى الأعوام القليلة الماضية، كانت هناك محاولات للترويج لفكرة مفادها أن الولايات المتحدة دخلت حربا باردة جديدة، تلعب فيها الصين دور الاتحاد السوفييتي، في حين تلعب روسيا دور مساعدها المتلهف.. ومن المفارقات المثيرة أنه في وقت يتسم بالاستقطاب السياسي الشرس في (واشنطن) لا يوجد اتفاق بين الديمقراطيين والجمهوريين أكبر من الاتفاق على فكرة أن الصين تحاول بقوة أن تحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة العالمية.
فمن المتوقع استمرار اللعبة بين (واشنطن) و(بكين) حتى في حال انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب بعد ستة أشهر من الآن؛ والدليل على ذلك، أن نائب مستشار الأمن القومي السابق لترامب، ماثيو بوتينجر -الذي من المرجح أن يتم تعيينه في إدارة ترامب الثانية- انتقد في مقال نشر في عدد مايو/يونيو من مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، "الصقور" في إدارة الرئيس جو بايدن؛ لأنهم لم يكونوا متشددين بما فيه الكفاية حيال التعامل مع الصين.
ويتماشى حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيون، مثل بريطانيا، إلى حد كبير مع الموجة الجديدة من التشدد، ومن بين هؤلاء الذين يريدون أن يصبحوا محاربين باردين، روبن نيبليت، وهو زميل في "تشاتام هاوس" (المعهد الملكي للشؤون الدولية) ومقره (لندن).. ويتساءل نيبليت في كتابه الجديد "الحرب الباردة الجديدة: كيف سيشكل التنافس بين الولايات المتحدة والصين في القرن الحالي"، عما يمكن القيام به لتجنب الانزلاق إلى حرب باردة أخرى؟ وأجاب نيبليت بأنه لا يمكن القيام بشيء، حيث إن "المشكلة هي أن هذين البلدين يقفان على طرفي نقيض من منافسة عالمية عميقة ومفتوحة بين نظامين سياسيين غير متوافقين ومعاديين لبعضهما البعض".
وترى "فورين بوليسي" أن ما يحدث بين الجانبين حاليا يشبه إلى حد كبير "السلام البارد" وليس "الحرب الباردة"، موضحة أن هناك اختلافا كبيرا بين هذين المصطلحين، فـ "الحرب الباردة" تعني التنافس العلني على الهيمنة الكاملة، العسكرية وغيرها، مع دولة من خلال العمل السري والعيش مع التهديد الدائم بالإبادة في عالم مثير للقلق ومعرض للخطر النووي.. فيما يعني "السلام البارد" أن القوى المتنافسة تتجنب بشكل عام استخدام القوة العسكرية، وتركز علاقتها على الأشكال غير المميتة من المنافسة الجيوسياسية، ويتم تحديد طبيعة ومجال المنافسة من قبل من يمارس أكبر قدر من التأثير ضمن نظام دولي متفق عليه بشكل عام.. وعليه، فإن الحرب الباردة تكون دائما محصلتها صفر؛ بينما في السلام البارد، ليس هناك فائز أو خط نهاية.
كما ترى "فورين بوليسي" أن جزءا مما يحدث اليوم (تجاه الصين) هو رد فعل مبالغ فيه من قبل المسؤولين الأمريكيين والغربيين عقب اكتشاف أن بكين ليس لديها نية لأن تصبح "صاحبة مصلحة مسؤولة" في الشؤون العالمية، كما كانت واشنطن تأمل بعد الحرب الباردة. فلقد شعر كبار المسؤولين والمشرعين الأمريكيين وكذلك النقاد بالحرج من سذاجتهم ومحاولاتهم السابقة القوية لفك الارتباط مع الصين، إذ تبين لاحقا أن هذه ليست الطريقة التي يجب أن تسير عليها الأمور. ودللت المجلة على ما ساقته بالإشارة إلى ما كتبه الصحفي، ديفيد سانجر، في واحد من الكتب الجديدة الأكثر توازنا وبُعد نظر، والذي يحمل عنوان "الحروب الباردة الجديدة: صعود الصين، والغزو الروسي، ونضال أمريكا للدفاع عن الغرب"، من أنه بعد اجتماع مشحون مع وفد صيني في آلاسكا عام 2021، أدرك مسؤولو إدارة بايدن ببطء أن الصين قد لا تكون بهذا القدر المقلق كما كانوا يعتقدون، ويبدو أن بكين أكثر استعدادا للتفاوض والتعاون.
ورغم ذلك.. لفتت المجلة الأمريكية إلى أن هناك الكثير من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن الولايات المتحدة والصين لا تزالان تنزلقان نحو حرب باردة ــ أو ما هو أسوأ ــ سواء أراد أي شخص ذلك أم لا، وينطبق هذا بشكل خاص على سباق التسلح المتسارع، والذي ظهر في الآونة الأخيرة من الكشف عن صواريخ صينية جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت (فرط صوتية)، والتي تهدد بأن تصبح ما يسمى قاتلة الطائرات في بحر الصين الجنوبي، وكذلك صور الأقمار الصناعية التي فاجأت مجتمع الأمن القومي في واشنطن بالكشف عن التعزيز النووي الدراماتيكي والسري للغاية للصين، والذي قد يشمل ما يصل إلى 300 صومعة صاروخية جديدة (منشآت لإطلاق الصواريخ الباليستية وتكون تحت الأرض).
وردا على ذلك، يقوم بايدن بتحديث الترسانة النووية الأمريكية، بما في ذلك تطوير أول رأس حربي نووي جديد للبلاد، W93، للمرة الأولى منذ 40 عاما؛ وقنبلة الجاذبية النووية B61-13؛ و400 صاروخ باليستي أرضي عابر للقارات؛ وأسطول من الغواصات الاستراتيجية المسلحة نوويا؛ وقاذفة استراتيجية جديدة (B-21) وصاروخ كروز يُطلق من الجو.
علاوة على ذلك، أصبح بايدن أقرب من أي رئيس سابق لانتهاك سياسة "الغموض الاستراتيجي" الأمريكية القائمة منذ فترة طويلة والتعهد علنا بالدفاع عن جزيرة تايوان، حتى مع تصعيد الجيش الصيني تهديداته وتدريباته العسكرية، كل هذا قد يعني بسهولة أن البلدين قد يقفزان ذات يوم فوق الجزء "البارد" ويدخلان مباشرة في حرب ساخنة.
وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من تأكيدات بايدن أنه لا يريد حربا باردة جديدة، فإن السياسة الأمريكية والغربية تؤكد عمليا لبكين أن تلك الحرب جارية، وأنها تأتي بموافقة مترددة من حلفاء الولايات المتحدة في المحيط الهادئ مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وهو ما وصل بشكل واضح عبر التحالفات الأمنية التي تقودها واشنطن لتشمل منطقة آسيا والمحيط الهادئ؛ الأمر الذي يدفع بكين للشعور بأن واشنطن تفرض بهدوء سياسة احتواء على غرار الحرب الباردة.
ومن الواضح كذلك أن الصين وروسيا ستظلان متحالفتين إلى حد ما، إن لم تكونا متحالفتين بشكل كامل بالمعنى العسكري، وسيستمر كلا البلدين في العمل على موازنة الهيمنة الأمريكية، وربما يكون من غير المجدي محاولة فصلهما عن بعضهما كما كان الحال مع فصل الاتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من عدم تسليمها أنظمة أسلحة واسعة النطاق لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، إلا أن الصين توفر التمويل، وعلى نحو متزايد، المعدات وقطع الغيار، وهو ما اتضح على لسان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد سفره إلى الصين في أواخر أبريل الماضي للقاء الرئيس الصيني شي جين بينج، وبعد محادثات استمرت أكثر من خمس ساعات مع وزير الخارجية الصيني وانج يي.
ففي مؤتمر صحفي، اتهم بلينكن الصين بـ "دعم الحرب العدوانية الوحشية التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا" من خلال كونها "المورد الأكبر للأدوات الآلية والإلكترونيات الدقيقة والنيتروسليلوز -وهو أمر بالغ الأهمية لصنع الذخائر ووقود الصواريخ- وغيرها من المواد ذات الاستخدام المزدوج التي تستخدمها موسكو لتعزيز قاعدتها الصناعية الدفاعية". وقد وصلت التجارة بين الصين وروسيا إلى مستوى قياسي بلغ 240.1 مليار دولار في عام 2023، وهو ما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بالعام السابق عليه.
وخلال الزيارة نفسها إلى الصين، أشاد بلينكن أيضا بنفوذ بكين "المهم" في "إبعاد روسيا" عن التفكير في استخدام الأسلحة النووية خلال الصراع الأوكراني، كما أثنى على بكين لحثها إيران على عدم التصعيد ضد إسرائيل.
ورغم ما سبق، يقول مايكل دويل، خبير العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا، إنه من الأهمية بمكان التمييز بين أهداف الصين وروسيا في البيئة الحالية. حيث يرى دويل في كتابه "السلام البارد: تجنب الحرب الباردة الجديدة"، أن الأمر مع الصين، مختلف تماما، فقد استفادت الصين بشكل كبير من اندماجها في الاقتصاد العالمي، وتريد مستقبلا لعب دور قيادي في الاقتصاد العالمي. لذا فهي لا تستطيع تحمل رؤية كل ذلك يتعرض للتدمير.
كما أنه بالنظر إلى قيام (واشنطن) والحكومات الأوروبية خلال السنوات الماضية بفرض مجموعة غير مسبوقة من قيود التصدير لضمان عدم مشاركة الشركات الغربية في التقنيات الحساسة مع بكين، وتقليل اعتماد تلك الشركات على الواردات الصينية في القطاعات الحيوية مثل الاتصالات والبنية التحتية، والمواد الخام، (تحت مسمى "إزالة المخاطر" وفقا لفريق بايدن)، فإن الواقع يشير إلى أن ذلك لا يزال يحدث على الهوامش فقط، وهو ما يتجلى في إعلان وزارة التجارة الأمريكية أنه في عام 2022، سجل إجمالي التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين رقما قياسيا جديدا قدره 690 مليار دولار.
وبالنظر أيضا إلى درجة التكامل والمنافع المتبادلة لكل اقتصاد من التعاون والمشاركة في الأسواق العالمية، فمن الواضح أن التهديد الاستراتيجي الذي تشكله الصين والولايات المتحدة على بعضهما البعض أقل بكثير من التهديد الذي يواجهه كل بلد من فشل تعاونهما. ويتجلى ذلك بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع تغير المناخ والأوبئة المستقبلية، وكذلك تحقيق الاستقرار في المناطق التي تحرص كل دولة على استغلالها تجاريا وخاصة الجنوب العالمي؛ لذا، فإن الصراع المباشر – على عكس المنافسة الاقتصادية – لن يساعد أي من الجانبين هناك. والأهم من ذلك هو أن الحكومتين الأمريكية والصينية أدركتا هذه الحقيقة، الأمر الذي يساعد في تفسير السبب وراء عدم تفاقم الحرب التجارية التي بدأها ترامب قبل سنوات.
وبالنسبة للتحدي الأيديولوجي المفترض من الصين؟ وعلى عكس ما ذهبت إليه الباحثة، إليزابيث إيكونومي، من معهد (هوفر) الأمريكي في مقالها الذي نشرته على غلاف عدد مايو/يونيو من مجلة "فورين أفيرز" بعنوان "هل تستطيع الصين إعادة تشكيل العالم؟"، فإن الواقع والأدلة تشير إلى أن الصين، إلى جانب روسيا، لم تنجحا في بناء ثقل موازن للمؤسسات الغربية الراسخة منذ فترة طويلة، بما في ذلك منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وبالتالي، فإن الصين، وعلى الرغم من خطابها الرسمي، إلا أنها لا تفعل الكثير لإزاحة النظام الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، وهو ما يؤكده العديد من الخبراء من أن بكين ليس لديها خيار آخر إذا أرادت الحفاظ على اقتصادها.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد أيضا إلى أن الولايات المتحدة اليوم لديها أكثر من 50 حليفا وشريكا استراتيجيا حول العالم، بما في ذلك العديد من الدول المجاورة للصين، ناهيك عن الدول الغنية بحلف شمال الأطلسي (الناتو) البالغ عددها 32 دولة، وتضم أغنى الدول في العالم. لذلك، فإن مجال النفوذ الغربي التقليدي يبدو بعيدا عن متناول بكين، وإن القضية لا تشبه على الإطلاق الحرب الباردة.
وأخيرا، ووفقا لخبير العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا الأمريكية، مايكل دويل، فإن الوضع الراهن بين واشنطن وبكين أشبه بالوضع أواخر فترة الأربعينيات، عندما لم يكن من الواضح نسبيا نوع التهديد الذي كان يشكله جوزيف ستالين والاتحاد السوفييتي، وأن هذا هو نوع العالم الذي نعيش فيه الآن.. لاشك أن هناك تحذيرات مشروعة بشأن طبيعة التنافس مع روسيا والصين، ولكن يجب تعلم دروس الوفاق من جديد، وإزالة الغمام والضباب الآن بعيدا عن أعيننا والتحرك قدما بما يخدم الجانبين والعالم.