السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

تقارير وتحقيقات

مصطفى بيومى يكتب: "المسكوت عنه" فى عالم نجيب محفوظ.. العنوسة من الاختيار الإرادى إلى السقوط فى الهاوية (2)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يقدم عالم نجيب محفوظ شهادة عميقة متكاملة صادقة عن العنوسة.. ويرصد انعكاس تغير وتطور القيم الاجتماعية على المفاهيم التى لا تعرف الركود والثبات.

 حميدة أجمل فتيات الزقاق بالإجماع فهل يكفى الجمال لتحقيق الأحلام التى تراودها؟ 

عيون الشباب تلاحق نعيمة فى «بيت سيئ السمعة» ويتحول جمالها من نعمة إلى نقمة 

في الشخصيات النسائية التي يقدمها محفوظ، في أعماله الروائية والقصصية، ما يؤكد تباين ردود الفعل تجاه تهديد شبح العنوسة، من بساطة التعامل كأن الأمر لا يمثل مشكلة جديرة بالاهتمام، إلى هيمنة مشاعر الغضب والإحباط واليأس، وقد تأتي النهاية السعيدة بالعثور على زوج، مرد ظهوره إلى عوامل شتى، منها الحظ والقدر والسعي وقوانين التوازن الاجتماعي.. ونواصل مع عالم نجيب محفوظ

* مخاطر الجمال *

لاشك أن الفتاة الجميلة تشعر بالزهو والثقة، وتدرك في أعماقها أنها مطلوبة لجمالها، فتغيب عنها لعنة مشاعر القلق من العنوسة والبوار، وليس أدل على ذلك التوجه مما نجده عند حميدة في "زقاق المدق". لا تجد في نفسها ما يعيب، من الناحية الشكلية، ولا يسيطر عليها التوتر لتأخر زواجها.

تقول أمها بالتبني:

"- أسفي عليك من شابة عاثرة الحظ لا تجد من يطلب يدها!.

ولكن الفتاة رمقتها بنظرة غاضبة وقالت بحدة:

- لست أجري وراء الزواج، ولكنه يجري ورائي أنا، وسأنبذه كثيرًا..

.... ولم تكن الأم في الواقع يداخلها خوف على الفتاة من البوار، ولا تشك في جمالها، ولكنها كانت كثيرًا ما تثور بعجبها وغرورها".

حميدة أجمل فتيات الزقاق بالإجماع، وجمالها هو السلاح الوحيد الذي تملكه، فلا ثروة أو عائلة. هل يكفي الجمال لتحقيق الأحلام العريضة التي تراودها وتسيطر عليها، والوصول إلى نمط الحياة الذي تتمناه؟!.

ما تذهب إليه حميدة من سهولة زواجها بفضل الجمال الذي تتمتع به ليس صحيحًا بشكل يقيني مطلق، ذلك أن الجمال قد يكون سببًا في العنوسة، وهو ما نجده عند كثير من الفتيات الجميلات في عالم نجيب محفوظ.

في قصة "الخوف"، مجموعة "بيت سيء السمعة"، تتسم نعيمة بنت عم الليثي بياع الكبدة، بجمال يثير الإعجاب بعد نزولها إلى سوق العمل لمعاونة أبيها. ترمقها عيون الشباب باهتمام، وتظفر سريعًا بعريس بياع بطاطا. يقرأ الفاتحة مع أبيها، ولا تنتهي القصة عند هذا الحد، فالجمال يتحول من نعمة إلى نقمة، ويتنافس الفتوتان "الأعور" و"جعران" على الظفر بالجميلة التي يتبخر مشروع زواجها من البائع الفقير، وتتحول إلى أداة لصراع عنيف باهظ الثمن، يطولها ولا تنجو منه الحارة: "لا يمكن أن تتزوج من الاثنين فهذا محال، ولا يمكن أن تتزوج من واحد دون آخر فهذا هو الموت"!.

ينجح الضابط عثمان الجلالي، الجسور المغامر، في القضاء على الفتوتين، لكن الجميلة نعيمة لا تصل إلى شاطئ الاستقرار، ذلك أن إعجاب الضابط بها لا يقود إلى الزواج، وينصرف عنها من يرغبون فيها: "تجنبها الشبان حبًا في السلامة"!.

الفتوتان المتصارعان في ذمة التاريخ، والضابط يحب بلا زواج، والشباب المنافسون يؤثرون السلامة، والإشاعات المسيئة تتناثر وتنتشر، والتوتر المدمر يهيمن على الجميلة المتهمة فتعاني من الوحدة والعصبية، وسرعان ما تقسو الملامح وتبرد النظرات ويزول الجمال، لتحل الشيخوخة المبكرة بلا رحمة!.

للوهلة الأولى ينبئ الجمال اللافت بفرصة أكبر للزواج المبكر، لكن الجمال نفسه يمثل حائلًا منيعًا دون وصول الجميلة إلى ما تظفر به الفتيات الأقل جمالًا، وبذلك يتحول من نعمة مشتهاه إلى نقمة تشبه الطوفان المدمر!.

يتكرر الأمر نفسه في الحكاية رقم "٣٣" من "حكايات حارتنا"، حيث زينب الموصوفة بانها "فلتة رائعة من الجمال، وفي جمالها تتلخص حكايتها".

بفضل جمال زينب الخلاب يتكالب الخطاب عليها، وترفض الأم يد ابن أختها سواق الكارو فتتمزق أواصر الأخوة، ويتنافس صبي الطرابيشي وصبي الفران فيخوضان معركة دامية: "يخرجان منها بعاهة مستديمة"!.

وإذ يتقدم المدرس المحترم ذو المكانة الرفيعة، الذي يحقق الأحلام ويليق بالجمال الخارق، يتصدى له المنافسون فيفقد عينه: "عند ذاك يجفل المحترمون من أبناء حارتنا إيثارًا للسلامة ولا يبقى في الميدان إلا الحرافيش".

الحرافيش الفقراء من العوام والصعاليك لا يليقون بجمال زينب، والمحترمون القادرون يتراجعون إيثارًا للسلامة، والجمال الاستثنائي يفضي إلى البوار، ويبلور الأب زيدان محنة ابنته وجوهر مأساتها في كلمات موجزة دالة: "لقد حلت بنا نقمة اسمها الجمال!".

لا تتسع الحارة لجمال زينب، ولا تجد أسرتها مفرًا من مغادرة الجحيم الذي لا يطاق، وتكتوي به الفتاة الجميلة بلا ذنب أو جريرة. من المنطقي إذن أن يتساءل الراوي بحزن في نهاية الحكاية: "ألا يتيسر للجمال أن يهنأ بالبقاء في حارتنا؟".

جمال نعيمة وزينب يصل بهما إلى الجفاف والعنوسة والوقوف على حافة الضياع، وقريب من هذا ما نجده عند جميلة سرور عزيز، في "حديث الصباح والمساء". جمالها الذي يقر به الجميع، يتحول إلى عنصر سلبي يؤخر زواجها: "والحق أن جميلة أخافت الأسر المحافظة من الجيران فأحجمت عنها رغم جمالها"!

صحح أن جميلة تتزوج ولا تسقط في شرك العنوسة، وأنها تنجو من الكارثة التي حلت بالجميلتين نعيمة وزينب، لكن المشترك بين الفتيات الثلاث هو انقلاب الجمال من نعمة إلى نقمة.

* عنوسة بلا توتر *

وصول الفتاة إلى ما اصطلح المجتمع على أنه سن العنوسة، لا يفضي بالضرورة إلى القلق والتوتر والسقوط في هاوية اليأس، فقد توجد أسباب معلومة لا تصنع مشكلة حقيقية جديرة بالقلق، ولا تدفع إلى الخوف من المستقبل وما يحمله من مؤشرات.

رندة سليمان مبارك، في "يوم قتل الزعيم"، تعبر بوضوح عن ذلك الاتجاه الذي لا يعرف التوتر، فهي تعيش قصة حب مع خطيبها وجارها علوان فواز محتشمي، ولأسباب اقتصادية يتأخر زواجهما طويلًا، ولا تظهر بادرة أمل في انفراجة قريبة. تقول لنفسها: "ماذا بعد خطبة طالت أحد عشر عامًا؟. ألا يوجد بصيص أمل؟".

حب مبكر تصنعه وتدعمه الجيرة، وخطوبة تطول أكثر مما ينبغي، والسؤال الأقرب إلى اليأس عن "بصيص أمل"، يجسد عمق الأزمة الطاحنة بعد تصاعد المعاناة في ظل الانفتاح الاقتصادي وتداعياته السلبية على الأسعار وصعوبة العثور على مسكن وتأثيثه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بعالم الموظفين من أصحاب الدخول الثابتة المتواضعة.

المطلقة سناء، شقيقة رندة، تبدو أكثر حدة وقسوة في قراءة المشهد، ويتجلى ذلك بوضوح في عبارتها الساخرة الموجعة بلا رحمة: "لننتظر حتى تترمل وهي مخطوبة!".

قصة الحب التي تعيشها رندة مع علوان، تحقق قدرًا من التوازن النفسي والتماسك الظاهري، والقلق مخبوء في أعماقها البعيدة، لا تعبر عنه بشكل صريح مباشر، لكن الضغوط التي تتعرض لها لا تقتصر على ما تقوله شقيقتها أحيانًا، والأم الساخطة المتذمرة في أحيان أخرى، فالمدير في العمل لا يخفي رغبته في الزواج منها، ويحكي لها عامدًا عن طبيبة شابة يئست من إتمام زواجها المتكافئ من طبيب، فتخلت عن خطيبها الشاب وتزوجت تاجرًا في وكالة البلح، قانعة بدور "ست البيت"، ثم يعلق على الحكاية التي يرويها كأنه يقدم القانون العام الذي ينصح باحتذائه: "أنا اعتبرها عاقلة، فست البيت خير من طبيبة عانس!".

قد يكون صحيحًا أن الحب الصادق المتوهج يحول دون السقوط السريع في مستنقع اليأس والإحباط والتوتر، لكن المقاومة لا يمكن أن تطول بلا نهاية. اليأس من تجاوز الأزمة الاقتصادية الطاحنة يدفع علوان فواز إلى فسخ الخطوبة ورفع راية الاستسلام، وعندئذ تبدو الطريق ممهدة لزواج تقليدي بلا حب، يخضع للحسابات وموازين العقل.

صرخة احتجاجية أخيرة تطلقها رندة، في حوار ساخن مع أمها: "لن أكون أول عانس في التاريخ"!، ثم تستسلم لزيجة فاشلة تنتهي بالطلاق السريع.

الحب عاصم من الإحباط عند فتيات يمكن وصفهن بالعنوسة وفق المعيار الاجتماعي السائد، فالحبيب موجود ويملأ الحياة بالأمل، وحلم الزواج ليس غائبًا بقدر ما هو غائم، والمصير الذي آلت إليه رندة يختلف عن مسار قصة مماثلة عاشتها منيرة حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة".

جمال منيرة مما يُضرب به المثل، وتفوقها الدراسي يتجلى في الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، والتخرج والعمل مدرسة، لكن قلبها يميل مبكرًا إلى شاب يصغرها في العمر، ومتعثر في دراسته، ولا يملك الإمكانات المادية للزواج. يقنع بوظيفة متواضعة تتوافق مع المؤهل المتوسط، ويستمر الحب بلا تقدم عملي ينبئ عن أمل الوصول إلى نهاية سعيدة.

تصمد منيرة مسلحة بالحب، ولا تتسلل المؤثرات السلبية لمفردة العنوسة إلى روحها، ولا تتأثر بمخاوف وقلق الأم التي لا تبدي تفاؤلًا بمستقبل العلاقة غير المتكافئة، لكن الزمن كفيل بزراعة الإزعاج وزلزال اليقين الراسخ: "توغلت في العمر حتى قاربت الثلاثين وهي ملهوفة على الزواج".

يُكلل صبر منيرة بالنجاح والانتصار، وتترمل شقيقتها زوجة الوجيه الثري فتحظى بدعم مادي يصل بها إلى محطة الاستقرار: "تزوجت منيرة بعد أن صار حبها حكاية".

معانقة العام الثلاثين، وما بعده، مشكلة تدعو إلى القلق والتوتر في الخمسينيات والسبعينيات على حد سواء، والحب طاقة من الأمل للمحبين، قدر ما أنه خاضع بدوره لعوامل الضغط الاجتماعي والنفسي، ولذلك تسقط عاشقة وتنجو أخرى.

المدرسة ليلى، في "قشتمر"، لا يسيطر عليها الإحساس بهاجس العنوسة، من الناحية الظاهرية، على الرغم من تقدمها النسبي في العمر. التحريات عنها، قبل زواجها من صادق صفوان، لا تشير إلى قصة حب في حياتها أو مشروع ارتباط: "وجاءت المعلومات تقول: إن الفتاة اسمها ليلى حسن، في الثلاثين من عمرها، أي تماثل صادق في سنه، مدرسة بمدرسة العباسية الابتدائية".

أسرة فقيرة "على قد الحال"، وبالنظر إلى القيم السائدة في المرحلة التاريخية، نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، فإن زواج المدرسة من "خردواتي" أقرب إلى التضحية والتنازل، فالمثل الأعلى هو الزواج من موظف. هل يمكن تفسير الزيجة كلها على ضوء الشعور الكامن بالعنوسة والتأخر في الزواج؟!.

لا يخفي صادق انزعاجه من تماثلهما في العمر: "تمنى لو كانت تصغره ببضعة أعوام، كما أنه تضايق بعض الشيء لما عرف أنه كان لها خطيب سابق انتهت خطبته بالفسخ، ولكنه فسر ذلك بفقر الأسرة وعجزها عن تجهيز العروس بما يليق". 

لاشك أن مشروع خطوبة ليلى قد تعثر لأسباب اقتصادية، ومن هنا غياب الشعور بالتوتر الظاهري، والاقتراب من الاستسلام واليأس واللامبالاة، ثم ادخار كل المشاعر السلبية المخبوءة لتنعكس على سلوكها المراوغ الأقرب إلى الشر في علاقتها الزوجية التي لم تعمر طويلًا، وانتهت بالطلاق لفرط عصبيتها وغيرتها وإسرافها المادي السفيه.

رندة سليان ومنيرة حامد وليلى حسن، لسن مضربات عن الزواج، ولا غياب للرجال عن عوالمهن، فهن راغبات في الارتباط ومقبلات عليه ومرحبات به، وتعوقهن أسباب تبدو مؤقتة وقابلة للتجاوز، لكن الأمر مختلف عند فتيات أخريات مسكونات بالخوف من ضياع فرصة الزواج، والسقوط في شرك العنوسة.

* الهروب من الشرك *

بعد الوقوف على حافة هاوية اليأس من الزواج، تظفر بعض فتيات نجيب محفوظ، المرشحات للعنوسة، بخلاص غير متوقع، يصعد بهن فجأة لمعانقة الحياة الزوجية.

زينب زين الناطوري في "عاشور الناجي"، الحكاية الأولى من ملحمة "الحرافيش"، تمثل حجر عثرة أمام زواج أخواتها غير الشقيقات، وبظهور عاشور الناجي، الشاب القوي المخلص الذي يحظى بإعجاب وتقدير المعلم زين، تبادر زوجة الأب بترشيحه زوجًا للعانس ابنة زوجها، دون اهتمام بغياب التكافؤ الاجتماعي والندية، والإهمال الكامل لغياب التوافق بين ابنة المعلم والأجير مجهول النسب:

"- زوجه لزينب..

فقطب زين الناطوري متفكرًا ثم قال:

- آمل فيمن هو خير منه!

- طال الانتظار، وكلما جاء عريس لإحدى أخواتها رفضته إكرامًا لسنها.

فقال باستياء:

- لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك..

- أصبحت عقبة في سبيل بناتي، وهي في الخامسة والعشرين ولا جمال لها، وطباعها تسوء يومًا بعد يوم".

وصول زينب إلى عامها الخامس والعشرين، مع غياب الجمال، يعني السقوط المؤكد في شرك العنوسة من ناحية والحيلولة دون زواج أخواتها غير الشقيقات من ناحية أخرى. عاشور الناجي، مع الإقرار بفضائله وأخلاقه المثالية وقوته الخيرة، ليس العريس المنشود بالمعايير الطبقية السائدة، ولذلك يتحفظ الأب الذي يعاني من القلق والتوتر، لكن مساحة الاختيار – في المقابل- ليست واسعة، وضغوط زوجة الأب تسهم في إتمام الزواج، فضلًا عن معاناة زينب وحرمانها وترحيبها بالزواج الذي طال انتظاره.

في "الباقي من الزمن ساعة"، تمثل كوثر حامد برهان نموذجًا متكامل الأركان للفتاة التي تكابد مرارة العنوسة، قبل أن يتدخل القدر بشكل إيجابي مفاجئ غير متوقع، لانتشالها والتغيير الجذري لمسار حياتها.

كوثر متواضعة الجمال، لا تميل إلى التعليم ولا تحقق فيه النجاح المأمول: "وانجذبت بطبعها نحو التدين وشئون البيت، فاضطرت إلى ملازمة البيت بعد سقوط عامين متتاليين في المرحلة الثانوية. يومها قالت سنية لحامد:

- ست البيت غير مطلوبة في هذا الزمان.

وتذكر الرجل حظها المتواضع من الجمال فغلبه الأسى ولكنه قال:

- يوجد أيضًا الحظ وهو لا قانون له!".

لا تملك كوثر شيئًا من المؤهلات التي ترشحها لزيجة مناسبة، فالأسرة متوسطة الحال بلا ثروة، والفتاة نفسها بلا جمال أو تعليم أو عمل. الالتزام الديني محمود بلا مردود، وإتقان شئون البيت لا يمثل وحده عنصر إغراء وجذب لمن يرومون الزواج، فلا مراهنة إذن إلا على الحظ ومعاونة القدر.

لا شيء إلا الانتظار والمزيد من الانتظار، ولا جديد يغير حياة كوثر الراكدة التي تمثل مشكلة حقيقية مزمنة عند الأب والأم معًا: "وتمضي الأيام فلا يتقدم أحد لطلب يد كوثر وهي الوحيدة التي لا غاية لها إلا الزواج. وتبسط سنية راحتيها بالدعاء عقب كل صلاة، أو يتهلل وجهها بالبشر أحيانًا وهي تقول لحامد:

- رأيت حلمًا سيكون له شأن!.

أو تكلف أم سيد بقراءة الفنجان وتصغي إلى تأويلاتها الوردية فينتعش حامد بالأمل يهدهد به همه المطارد".

محمد، شقيق كوثر، وشقيقتها منيرة، تتسع الحياة عندهما لمفردات شتى، تعليمية وثقافية وسياسية وعاطفية، أما كوثر التي لا تغادر البيت، ولا اهتمام لها بالشأن العام، فلا غاية عندها إلا الزواج، ولا سلاح عند أبويها، قليلي الحيلة، إلا الدعاء إلى الله وتأويل الأحلام وقراءة الفنجان!.

تنبئ المؤشرات جميعًا بأزمة عاتية مستعصية، ثم يشرق الفرج فجأة بظهور عريس فاحش الثراء، لكنه لا يخلو من السلبيات والعيوب التي لا يمكن إهمالها أو إنكارها. الوجيه نعمان الرشيدي في الستين من عمره، أرمل وأب لثلاثة أبناء، ولا حظ له من التعليم.

السمات السابقة جميعًا توضع في ميزان السلبيات التي لا تجعله زوجًا مناسبًا، لكن ثراءه الطائل يتعانق مع أزمة كوثر المزمنة، وصولًا إلى الزواج الذي يمثل نهاية المعاناة لفتاة طيبة تعيسة الحظ، لا يمكن أن تراهن على انتظار البديل الأفضل: "وقالت كوثر لنفسها إنهم يميلون للموافقة. وهي أيضًا مالت إليها منذ اللحظة الأولى، فهذا الرجل هو أول رجل يتقدم. وهي تغوص في السادسة والعشرين تكتنفها أحوال تدعو إلى اليأس. وهي تثير العطف حتى كرهته. وباتت تخجل من لقاء الزائرات".

الفارق شاسع بين الستين والسادسة والعشرين، لكن الوجيه العجوز بمثابة الفرصة الوحيدة المتاحة، التي قد لا تتكرر، والموافقة على الزواج، مع التسليم بالعيوب والمآخذ، أفضل من اليأس والانتظار اللامجدي وعذاب العطف والشفقة ولعنة الخجل.

زيجة موفقة في جملتها، وترمل منطقي مبكر يفضي إلى الزهد في زواج جديد، وانشغال بالابن الوحيد، ثمرة الزواج الذي أفلتت به كوثر من براثن العنوسة لتستقر في حضن الترمل والأمومة.

.. ونستكمل غدًا فى عدد الأحد مع عالم نجيب محفوظ