العنوسة من الاختيار الإرادى إلى السقوط فى الهاوية .. ردود فعل متباينة بين اليأس والإحباط والنهاية السعيدة لدى النساء .. تنوع فى الأعمار والمهن والثقافات ودوافع امتناع الرجال عن الزواج عند شخصيات أديب نوبل
ينتبه الكاتب الكبير إلى حقيقة أن الجمال وحده لا يمثل جواز المرور للعبور نحو شاطئ الزواج، فما أكثر الدميمات اللاتى يتزوجن مبكرًا، وليس بالنادر الاستثنائى أن يكون الجمال هو العائق الذى يقود إلى العنوسة.
فى الشخصيات النسائية التى يقدمها محفوظ، فى أعماله الروائية والقصصية، ما يؤكد تباين ردود الفعل تجاه تهديد شبح العنوسة، من بساطة التعامل كأن الأمر لا يمثل مشكلة جديرة بالاهتمام، إلى هيمنة مشاعر الغضب والإحباط واليأس، وقد تأتى النهاية السعيدة بالعثور على زوج، مرد ظهوره إلى عوامل شتى، منها الحظ والقدر والسعى وقوانين التوازن الاجتماعي.
مفاهيم اجتماعية
على الرغم من أن مصطلح العنوسة، لغويًا، يطول الرجال والنساء على حد سواء، فإن الشائع المستقر اجتماعيًا هو إطلاقه على النساء وحدهن، ذلك أن العرف السائد لا يحدد عمرًا بعينه للرجل، يصل معه وبعده إلى محطة اليأس من الزواج، أما المرأة فيبدو التأخير غير محقق لأحد أهم أهداف المؤسسة الزوجية، الإنجاب، عندما يتقدم بها العمر وتودع مرحلة الخصوبة.
يتجلى الفارق الجوهرى بين النساء والرجال، فى حوار قصير يدور بين علوان فواز محتشمى وخطيبته رندة سليمان مبارك، فى "يوم قتل الزعيم". تطول فترة الخطوبة بينهما أكثر مما ينبغي، فيتهيأ علوان للانسحاب قائلًا:
"- لا مفر من التسليم بأنى أهدر مستقبلك.
- ومستقبلك أنت؟
- الأمر يختلف وقد يتزوج الرجل فى الخمسين".
يتزوج الرجل فى الخمسين بلا غضاضة، ويكون أسرة وينجب بلا عناء، أما وصول المرأة إلى العمر نفسه، فبمثابة الإفلاس الذى يحول دون قدرتها على الإنجاب وتكوين الأسرة. قد لا يكون الزواج مستحيلًا عندئذ، لكن الدافع إليه هو البحث عن المتعة الجنسية، أو الهروب من الوحدة.
لاشك أن تأخر وتعثر الرجل فى الزواج، أو الامتناع عنه بشكل نهائي، يمثل مشكلة ذاتية موضوعية لا يمكن إنكارها أو إهمالها، فالفرد يعانى والمجتمع تراوده الشكوك ويطرح التساؤلات، لكن الخروج من دائرة العزوبية ميسور ومتاح.
عبدالرحمن أفندى فى قصة "حياة للغير"، مجموعة "همس الجنون"، يقترب من عامه الخامس والثلاثين، ويفكر جديًا فى الزواج من جارته سمارا، التى لم تتجاوز السادسة عشرة!. فارق السنوات العشرين لا يمثل مشكلة مستحيلة التجاوز، وفشل المشروع لا يعنى أنه غير قابل للتكرار مع فتاة أخرى.
عند استعراض أشهر شخصيات نجيب محفوظ، من الشباب والكهول غير المتزوجين، نجد تنوعًا لافتًا فى الأعمار والمهن والثقافات ودوافع الامتناع: أحمد عاكف فى "خان الخليلي"، كمال عبدالجواد ورضوان ياسين وعبدالرحيم باشا عيسى فى "الثلاثية"، رجب القاضى فى "ثرثرة فوق النيل"، عامر وجدى ومنصور باهى فى "ميرامار"، وحيد الناجى فى "الحرافيش"، حليم عبد القوى البيه فى قصة "أسعد الله مساءك"، مجموعة "صباح الورد"، غسان عبدالعظيم داود ولبيب سرور عزيز فى "حديث الصباح والمساء".
هؤلاء جميعًا، وغيرهم كثيرون، وفيهم الموظف والمدرس والقاضى والممثل والصحفى والمذيع والفتوة، لا يتزوجون لأسباب ودوافع مختلفة، لكن تغيير المسار ليس مستعصيًا أو مستحيلًا، دون نظر إلى الحوائل الاقتصادية والاجتماعية والجنسية والنفسية والفكرية، التى تقودهم إلى اتخاذ القرار بالامتناع عن الزواج.
أحمد عاكف يحن إلى الزواج، وتنتهى "خان الخليلي" وهو يفكر جديًا فى جارته الأرملة كزوجة مناسبة، وكمال عبدالجواد يراود الزواج من بدور شداد، على الرغم من فارق العمر الكبير بينهما، ثم يتراجع لأنه يعى حقيقة حبه القديم غير القابل للنسيان مع شقيقتها الراحلة عايدة، والممثل زير النساء رجب القاضى يعيش قصة حب عميقة مع الصحفية سمارة بهجت، ولا يستبعد الإقدام على الزواج بعد إضراب طويل، والقاضى لبيب سرور يتزوج بعد أن تجاوز الستين، والموظف المتقاعد حليم البيه تعاوده أحلام الزواج من حبيبة الصبا والشباب، وكلاهما قد عبر الستين
نسبية العمر
الرجال لا يعرفون العنوسة بالمعنى الاجتماعى الشائع للكلمة، وينصرف المصطلح عادة إلى النساء وحدهن، لكن المرحلة العمرية للعنوسة تختلف مع التطور الاجتماعى والتغير الحتمى فى القيم والمعايير.
فى قصة "أم احمد"، مجموعة "صباح الورد"، يبدو العام الخامس عشر مناسبًا للزواج، والتأخير بعده يرادف القلق وينذر بالخطر!. فى سياق الحديث عن آل العمري، تقول الخاطبة والماشطة أم أحمد:
"- وددت أن أسرع فى تسمين فاطمة ولكن أمها أجلت إلى ما بعد الزواج.
وتساءلت أمى عما يؤخر زواج الجميلة رغم بلوعها الخامسة عشرة فقالت أم أحمد:
- حسين بك مصمم على ألا يزوجها قبل الثامنة عشرة..
- ولكنها سن متأخرة يا أم أحمد".
انتظار وصول الفتاة الجميلة لعامها الثامن عشر لا يروق لأم الراوي، وبلوغ الخامسة عشرة يبدو مناسبًا للزواج!.
فى المرحلة التاريخية نفسها، كانت خديجة أحمد عبدالجواد، فى "بين القصرين"، تعلن بشكل صريح عن انزعاجها لأنها وصلت إلى عامها العشرين دون زواج، وإذ تهون عليها أمها أمينة، مؤكدة أنها مازالت صغيرة، لا يتوارى الانزعاج أو يتلاشى: "وتضايقت لذكر الصغر لأنها لم تكن تعد نفسها صغيرة بالقياس إلى سن الزواج وخاطبت أمها قائلة:
- لقد تزوجت يا نينة وأنت دون الرابعة عشرة.
فقالت الأم التى لم تكن فى الحق دون ابنتها قلقًا:
- لا يتقدم أمر أو يتأخر إلا بإذن الله".
فى القرن التاسع عشر، تتزوج أمينة قبل أن تصل إلى عامها الرابع عشر، فلا غرابة أن يسيطر القلق على خديجة وأمها معًا، عند الوصول إلى العشرين بلا زواج!.
هكذا كانت مصر فى الربع الأول من القرن العشرين، فالفتاة لا تتعلم ولا تعمل، وليس من شيء ينتظرها وتنتظره إلا الزواج، فما الذى يبرر التأخير ويزيل القلق، مع توافر كل المؤهلات المطلوبة، وفى الصدارة منها: الثراء والعائلة المحترمة؟!.
مع الوصول إلى الستينيات، يتغير المشهد جذريًا، ويطرأ تحول كبير على عقليات الفتيات اللاتى يخضن رحلة التعليم وتجربة العمل، بل إنهن يفكرن فى الهجرة خارج الوطن، دون تفكير فى الزواج، كما هو الحال بالنسبة لابنة عبده البسيونى فى "المرايا"، فهى لا ترى نفسها مختلفة عن شقيقها، وتراود أن تهاجر معه بعد الحصول على بكالوريوس فى الصيدلة:
"- وفتى الأحلام؟.. ألم تفكر فى هذه المشكلة؟
- إن ما نعده مشكلة يعدونه لعبًا"!.
الزلزال الاجتماعى يطيح بالموروث كله، ومن المنطقى أن تظهر بعض توابع هذا الزلزال فى قضية مثل أحلام الزواج المبكر ومفاهيم العنوسة التقليدية. التشبث بالماضى وتقاليده وقيمه لا يعنى شيئًا، ومخاوف السيدة أفكار، الزوجة ذات الأصول الشعبية للمليونير عبدالحميد حسنى فى قصة "أيوب"، مجموعة "الشيطان يعظ"، لا متسع لها أو معنى. ترفض الابنة نبيلة عريسًا تراه الأم مثاليًا، وتقول لزوجها فى نبرة احتجاجية ساخطة:
"- إنها لم تعد صغيرة.
- بنت عشرين صغيرة فى هذا الزمن، وهل يُخشى على ابنة مليونير من البوار؟!.
"هذا الزمن" يختلف عما قبله، فالطالبة الجامعية ليست أسيرة البيت، والإرادة المستقلة تزيح التبعية المطلقة، وتنوع الاهتمامات فى حياة الفتاة العصرية المثقفة الواعية، لا يجعل الزواج حلمًا وحيدًا محوريًا.
جدلية معقدة
الفتاة العانس، فى كل زمان ومكان، ليست مسئولة عن عنوستها بطبيعة الحال، لكن المجتمع التقليدى المحافظ يصدر أحكامًا بالغة القسوة ضد من يفوتهن قطار الزواج، كأنهن معاقبات لأخطاء كامنة فيهن!.
العنوسة كفيلة بصناعة السمعة السيئة، دون نظر أو تفكير فى طبيعة السلوك الأخلاقى الذى تمارسه العانس، ومدى خضوعه للقيم السائدة أو تمرده عليها، وفى المقابل، فإن السمعة السيئة متهافتة الأساس، غير القائمة على منطق أو دليل، تصنع العنوسة بدورها، أو تسهم فى تكريسها، لكن عملية الزواج أكثر تعقيدًا من أن تكون معتمدة على جانب واحد، وليس أدل على ذلك من زواج الفتيات المنتميات إلى أسر لا تحظى بالرضا الشعبي، وهو ما نجده مع بنات الضابط عشماوى جلال، الجلاد عدو الحركة الوطنية فى "المرايا". وفى الرواية نفسها، تمارس أسرة الحملاوى سلوكًا مستهجنًا يستحق السخط، مما ينبئ عن استحالة زواج البنات الثلاث لعصام بك الحملاوي: "ولكن بدءًا من عام ١٩٣٠ حدث ما خيب تقديرات أهل الحى جميعًا. فقد تزوجت البنات الثلاث تباعًا، وفزن بزيجات ممتازة!".
الأمر نفسه نجده فى قصة "بيت سيء السمعة"، فالأسرة التى تسبق العصر وتؤمن بالاختلاط وحرية المرأة، ولا تبالى بالآسن الراكد من القيم الموروثة غير المجدية، تتعرض لحملات عاتية من الهجوم والتشهير، لكن الراوى يستدعى ذكرى زواج بنات الأسرة جميعًا: "تذكر كيف تزوجت بنات البيت السيء السمعة واحدة بعد أخرى رغم ما سمع مرارًا وتكرارًا بأنهن بنات لم يُخلقن للزواج ولن يسعى إلى الزواج منهن أحد. وكلما جاءه نبأ عن توفيقهن فى زواجهن ذهل واختلت موازينه!".
المرشحات للعنوسة، بفعل السمعة السيئة التى تطولهن اعتمادًا على الشبهة وحدها دون دليل، زوجات ناجحات موفقات فى حياتهن الزوجية، ذلك أن المعيار الذى يقود إلى نبوءة البوار وتعثر الزواج، لا ينهض على أساس، والزواج عملية اجتماعية معقدة، تتداخل وتتشابك فيها عوامل اقتصادية وأخلاقية وثقافية، وتخضع لحسابات وصفقات. وفى هذا السياق، لا يمكن تفسير العنوسة بعامل واحد، مثل القبح أو الفقر أو شيوع السمعة السيئة، فالأمر كله نسبى مراوغ.
الجمال والقبح
ليس دقيقًا أن العنوسة تقترن بالدمامة والقبح، وأن الزواج المبكر يرادف الجمال. مثل هذا الارتباط الميكانيكى ليس واردًا أو ممكنًا، فما أكثر القبيحات اللاتى لا تواجههن أشباح العنوسة، وما أكثر الجميلات اللاتى يتأخر زواجهن. إقبال الرجال على الزواج لا ينبع من جمال العروس فحسب، بل هناك أيضًا عوامل اقتصادية واجتماعية و"حسابات" معقدة تفضى فى النهاية إلى تشكيل قانون خاص يتحكم فى صناعة المؤسسة الزوجية، والجمال نفسه قد يتحول إلى عائق، وليس عاملًا إيجابيًا مساعدًا.
سميحة محمد سلامة، فى "حديث الصباح والمساء"، فتاة مقبولة الجمال، وابنة أستاذ جامعى يملك شركة هندسية ناجحة. بهذه المؤهلات يبدو زواجها من المهندس الفقير حازم سرور فعلًا يصعب تفسيره، لكن الأسباب الكامنة تظهر بعد الزواج مباشرة: "وضحت له الحقيقة وجابهته بوجه منذر بالخطر، بأن العروس ذات جهاز عصبى لا يخلو من خلل".
المرض العصبى المزمن عنصر سلبي، والثروة والمكانة الاجتماعية والجمال المعقول مؤهلات إيجابية. الزوج المناسب من أبناء الطبقة الراقية لن يرحب بسميحة وعلتها التى تنتقص من قيمتها فى سوق الزواج، أما حازم فهو العريس الذى لن يرفض الصفقة بمقاييس الحسابات التى تقوده إلى التوازن. المسألة لا تغيب عن الزوج، ولا يملك إلا أن يرحب بها ويتعايش معها: "ليكن، فهى "زيجة على أى حال عادلة".
نموذج الزيجة التى تجمع بين حازم وسميحة ينهض دليلًا على أن العنوسة لا تقترن بالقبح والمرض، فالمعادلة تضم مجموعة من العناصر، والزواج فى نهاية الأمر أقرب إلى "المشروع" الذى لا ينجو من الحسابات.
الفكرة السابقة نفسها، بطريقة مغايرة، نجدها فى الحكاية رقم "٩" من "حكايات حارتنا". أبناء الحارة الشعبية لا يخفون دهشتهم من العمل الوظيفى الحكومى الذى تلتحق به توحيدة بنت أم على بنت عم رجب، فكيف تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال؟!. اليأس من الزواج يبدو تفسيرًا مناسبًا للخطوة غير المسبوقة، والرد التفنيدى على هذا التفسير يؤكد حقيقة أن الزواج لا يرتبط بالجمال وحده:
"- يمكن لأن البنت غير جميلة؟
- كانت ستجد ابن الحلال على أى حال".
ليس محتمًا أن يغيب "ابن الحلال" بغياب الجمال، وعنوسة توحيدة ليست قدرًا يستحيل الإفلات منه.
ما أكثر الرجال الذين يبحثون عن زوجة "مناسبة" تتوافق مع إمكاناتهم المحدودة التى تتطلب التضحية والتنازل فى تحديد مواصفات العروس المطلوبة، وهؤلاء الرجال لن يجدوا مفرًا من تقديم تضحيات مهمة، مثلما نجد عند عثمان بيومى فى "حضرة المحترم". طموحه الأسمى أن يتزوج من أسرة كريمة، تعينه فى رحلة الصعود الوظيفي، ويقول لجارته الخاطبة أم حسني: "ليس من الضرورى أن تكون بكرًا، لتكن أرملة.. مطلقة.. عانسًا.. لا يهمنى الجمال- ولكن لتكن مقبولة – ولا يهمنى السن ولا المال".
فى سياق معين، قد تكون العانس مطلوبة، وقد لا يكون الجمال هدفًا، فالزواج شركة من طرفين، والأولويات تختلف بالنظر إلى طبيعة وظروف طرفى العلاقة.
محمد السناوي، فى قصة "صباح الورد"، موظف بسيط فقير ضئيل المكانة قبيح الشكل، فهل من زوجة تناسبه إلا إذ كانت مثقلة بالعيوب التى تصرف الأفضل عنها؟!: "ولما شعرت أمه بدنو الأجل زوجته من قريبة لها عانس، قدرنا جميعًا أنها تكبره".
القريبة العانس للأم لن تظفر بأفضل منه، وهو بدوره لن يجد الأفضل. فقره وقبحه ووظيفته المتواضعة، فى مقابل عنوستها وفقرها وتقدمها النسبى فى العمر، ولا متسع هنا للحديث عن الجمال أصلًا!.
ونستكمل غدًا فى عدد السبت
مع عالم نجيب محفوظ