قبل عام مضى، وعقب العرض العالمي الأول لفيلمه "Killers of the Flower Moon" بمهرجان كان السينمائي، توجه المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، إلى الفاتيكان، لإتمام زيارة كانت قد تأخرت كثيرًا لصانع الأفلام المخضرم المعروف بنزعته الكاثوليكية في معظم أعماله. تمخضت هذه الزيارة، التي التقى خلالها البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، عن فكرة فيلم جديد عن المسيح، وهو النداء الذي استجاب له سكورسيزي بالطريقة الوحيدة التي يعرفها أي " من خلال تخيل وكتابة سيناريو فيلم عن يسوع"، حسب وصفه.
الإغواء الأول لسكورسيزي
إذا أردنا تتبع قصص الأفلام التي تناولت حياة المسيح في السينما منذ الميلاد وحتى القيامة، لابد أن نتوقف قليلاً عند أعمال سكورسيزي التي غلب عليها النزعة الدينية والتي حازت على مكانة خاصة في قلوب محبي السينما طوال عقود بنفس قدر إثارتها للجدل.
ففي فيلمه "الإغواء الأخير للمسيح" المأخوذ عن رواية للكاتب نيكوس كازانتزاكيس، لم يفقد المخرج الأمريكي المخضرم مارتن سكورسيزي، الأمل طيلة السنوات الأربع التي استغرقها في إنتاج المشروع، والذي صور خلاله المسيح في صورة الإنسان الضعيف أمام شهوات الجسد. هذا التصور الإبداعي تسبب في حالة من الغضب العارم لدى بعض الجماعات المسيحية وقت عرض الفيلم، مما دفع عدد من الجماعات المسيحية بالاعتداء على دور العرض، وأقيمت دعاوى قضائية عديدة ضد الفيلم ومخرجه، كما منع من العرض في الكثير من الدول، من بينها مصر.
في الفيلم، يقدم سكورسيزي الازدواجية الشديدة داخل المسيح (ويليام دافو)، الذي عُرض عليه إمكانية عيش حياة بعيدة عن الجانب الإلهي فيها. وبالتالي "مسيح سكورسيزي" يكافح مع الجميع، ونضاله الأعظم والأشد ضراوة هو مع نفسه. صراع فضَّل "سكورسيزي" أن يبقيه في الجانب الداخلي من الروح، حيث تصبح جروح ومعاناة الجسد بمثابة مرآة تعكس آلامه الداخلية، في استعارة واضحة لمعاناة العالم.
صنف الفيلم ضمن الأعمال الأكثر جدلاً في تاريخ السينما، فهو خلق موجة من الانتقادات بسبب الزاوية الجريئة التي أعطاها سكورسيزي عن المسيح. وعلى الرغم من كونه عملاً ينتمي لأفلام السيرة الذاتية لشخصيات مقدسة، إلا أن إنطلاقة الفيلم تبدأ من شباب المسيح وليس من ولادته وطفولته، في مدة طويلة تصل إلى ساعين و44 دقيقة.
صمت سكورسيزي
ورغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها سكورسيزي وقت طرحه الفيلم عام 1988، إلا أنه وفي نفس العام كان يخطط لفيلمه الديني المقبل. حيث أبدى إعجابه برواية "الصمت" للكاتب الياباني إيندو شوساكو، والتي حازت على استحسان عالمي داخل الدوائر الأدبية إضافة إلى استنكارها من جانب الكنيسة الكاثوليكية – كحال أفلام سكورسيزي – وعزم على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وبالفعل صدر الفيلم الذي حمل نفس عنوان الرواية لكنه لم يرى النور إلا بعد 28 عامًا على "إغواءه الأول".
في تحفة سكورسيزي الدينية لا وجود للمسيح، ولكن هذا الأمر لم يمنع وجود الكثير من الأسئلة المترامية والتي تتعلق بجوهر الإيمان والغرض منه عند سكورسيزي. قصة الفيلم تدور في عام 1633 حول مبشرَين برتغاليين يتوجهان إلى اليابان بحثاً عن معلمهما الأب اليسوعي فيريرا، الذي وصلت إلى مركز اليسوعيين بالبرتغال أنباء تفيد بأنه قد تخلى عن إيمانه في لحظة ضعف بعد أن ألقت السلطات القبض عليه وعمدت إلى تعذيبه في منطقة جبل أونزين، حيث كانت قد فقدت آثاره هناك.
وكان الأب فيريرا قد خاض رحلته إلى اليابان من أجل نشر تعاليم المسيحية، لكنه اختفى بعد أن شنت الإمبراطورية هجمة ضارية على الجماعات المسيحية، ولم يتبق منها سوى مجموعة صغيرة كانت تطلق على نفسها اسم "المسيحيون المختبئون"، الذي إذا ما وصلت أنباء عن أماكنهم إلى السلطات الحاكمة كان يتم تعذبيهم بوحشية حتى الموت، وكأنهم امتداد للرحلة المعذبة التي خاضها المسيح من أجل خلاص البشرية.
حياة المسيح مجددًا !
بالعودة إلى لقاء سكورسيزي مع بابا الفاتيكان، وبعد النجاح المدوي الذي حققه فيلم "الصمت" عام 2016، يستند سكورسيزي في مشروعه الجديد على رواية للكاتب الياباني إندو شوساكو أيضًا بعنوان "حياة المسيح"، وهى تحمل تصورًا بسيطًا عن حياة يسوع، حيث يتخيل شخصية المسيح وهو يمشي ويكرز ويشارك عقيدة الحب المرفوضة في النهاية فوق كل شيء. إنه يتأمل ويوضح ويسلط ضوءه الخاص على تلك الفترة من التاريخ الإنساني.
وكشف سكورسيزي في مقابلة مع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أن فيلمه الديني القادم ستدور أحداثه في الوقت الحاضر في الغالب، لكن بحسب الصحيفة، "لا يريد سكورسيزي أن يكون مقيدا بفترة معينة". بالإضافة إلى ذلك، فهو يتوقع أن تبلغ مدة الفيلم حوالي 80 دقيقة، وهو تناقض صارخ مع مدد عرض غالبية أعماله.
وقال سكورسيزي للصحيفة: "أحاول إيجاد طريقة جديدة لتسهيل الوصول إلى القصة والتخلص من العبء السلبي لما ارتبط بالصورة النمطية للدين. "في الوقت الحالي، "الدين"، أنت تقول هذه الكلمة والجميع غاضبون لأنها فشلت في نواحٍ عديدة. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الداوفع الأولي كانت خاطئة. دعونا نعود، دعونا فقط نفكر في الأمر، يمكنك رفض ذلك، لكن قد يُحدث ذلك فرقًا في الطريقة التي تعيش بها حياتك، حتى في رفضها. لا ترفض الأمر من باب الرفض فقط. هذا كل ما أتحدث عنه وأنا أقول ذلك كشخص يبلغ من العمر 81 عامًا".