تعطلت بي سيارتي.. فوقفت على الطريق “أشاور” لأي سيارة ولم يستجب لاستغاثتي سوى “عربجي” فركبت معه وأخذ يتحدث في كل شيء “اقتصاد.. سياسة.. طب.. هندسة.. علاقات اجتماعية.. أبحاث بيولوجية.. ويُحلل ويضع روشتات إصلاح”.. ثم فاجأني بأنه يقول: "إنت عارف يا بيه أنا أزمتي إيه؟ إن الناس بتجادل في كل شيء!
كنت تذكرت ما سألني عليه صديقي الغالي قبل أسابيع، عن السبب في أننا نصب جام غضبنا على "الحمار" وأن أي نقصٍ أو خطأ نلصقه به؟.. فاستغليت الفرصة وقلت سأجد الإجابة حتماً لدى “العربجي”.. فضحك حتى ابتلع فاهه اللجام وقال بتوأدة وثقة، لأنه حمار يا بيه.
تبسمت وقلت له لا ولكن لأن الحمار هو المخلوق الوحيد الذي ليس له "وجهة نظر".. ليس له رأي.. "تابع لصاحبه أينما وجهه".. يركض ويرقد حسب الحالة المزاجية لصاحبه.
وقصصت عليه ما حدث أول مرة حينما غضب الحمار بعدما بالغ صاحبه في إهانته، خرج من الحظيرة وأطلق نهيقه عالياً، فارتجف صاحبه لأنه لم ير "حماره" على تلك الحالة من قبل، واحتار كيف يُراضيه.. لكن الحمار "تمرغ" في الأرض ثم نهض منكفئ الرأس ودخل مرة أخُرى إلى الحظيرة.. فعرف صاحبه أن هذا مٌنتهى غضبه فبات يُهينه ولا يبال بنهيقه!
ثم أردفت: مع أن الحمار هذا كان من المُمكن أن يُغير وضعيته بين أمم الحيوانات والبشر، إذا أدرك قيمته التاريخية ودون تلك المشاهد التي لم يرها حيوان غيره.
جذب حديثي انتباه “العربجي” فأخذ آخر حارة في اليمين وهدأ وقع الحدوات ليستمع للحكايات فقلت له: "أكثر من مرة ذُكر الحمار في القرآن وكان لزاماً عليه بعد ذلك على الأقل أن يغتر.. أن يُحاول أن يعقل الفعل والقول ولو كان الأمر صعباً.. أن يكون له رأي ولو لمرة.. أن يكون قد اكتسب ولو حكمة واحدة.. لكنه لم يفطن ولم يتعلم.. فحكايات كثيرة تعرض لها معشر الحمير كانت كفيلة أن تٌغير منهج تفكيرهم وتضعهم في مصاف معاشر الحيوانات، فقد عاصروا أنبياء وملوك وحكماء وفراعنة وسافروا إلى كل مكان وعاملوا كل الصنوف لكنهم لم يستفيدوا من كل تلك الأحداث، ولم يفطنوا إلى قيمة ما مروا به من تجارب.
أخرج من “جيب الصديري” علبة الدخان ولف واحدة في ثوان وقال لي: “عفر يا باشا”.. فقلت له أنني حينما قابلت أشهر حًمارٍ قال لي: "لا تُحدث جلبة في الحظيرة أيها الجحش! فبكيت وتبسمت وقلت: "لا عليك.. إنه مجرد ضجر!. فنحن الحمير نشأنا على ألا يكون لنا "رأي".. وأن صمتنا "صبراً" سنؤجر عليه يوماً بزيادة "العليقة".
ثم صمت وقلت لصديقي “العربجي”.. هل تعرف حمار علي الكسار؟.. في كل مرة أتطرق فيها لسيرة الحمار، أتذكر علي الكسار حينما خدعه أحد اللصوص وسرق حماره ووضع اللجام حول رقبته، وحينما استدار له الكسار أخبره أنه كان "بني آدم" ولما أغضب أمه دعت عليه فتحول إلى حمار، فأعتقه الكسار وقال له: "روح وأوعى تزعل أمك تاني".. وفي اليوم التالي حينما ذهب إلى السوق ووجد حماره معروضاً للبيع هرول نحوه ومال على أذنه وقال له: "الله يخربيتك إنت زعلت أمك تاني يا حمار!".. ومن يومها ولم يُغضب أحداً فينا أمه.. ورغم ذلك نُسخط كل يوم لحمير.
قاطعني “العربجي” قائلاً:" انا مش فاهم حاجة من كلامك بصراحة يا بيه"..فضحكت وقلت له: لا عليك ليس سوى ضجر في الحظيرة".. أخذتنا الحكايات وضاع الوقت ولم أصل.