اسأل نفسك ومن حولك عما إذا كانوا يريدون أن يعيشوا حتى يبلغون ١٠٠ عام؛ من المتوقع أن تكون الإجابة "بالتأكيد!" وربما متبوعة بـ"لحظة صمت". تكثر هنا الأسئلة فجأة: هل سأكون بصحة جيدة؟ هل سأكون حملا على غيري؟ هل سأكون مستقرًا ماليًا؟ هل سأعيش وحيدًا لأنَّ كل من عرفتهم وأحببتهم ربما ماتوا وتركوني؟!
كل هذه الأسئلة يمكن اكتشاف إجابات لها خلال رحلة مشوقة حملتنا حول العالم مع الكاتب "دان بيوتنر" للتعرف على مجتمعات فريدة، يعيش أفرادها أعمارًا طويلة مفعمة بالصحة والحيوية. هذه السلسلة الوثائقية التى عرضتها منصة "نتفليكس" تحت عنوان "العيش لمئة عام: أسرار المناطق الزرقاء" حفزتنا من خلال هذه الرحلة على مدى مجموعة حلقات وثائقية لاكتساب أسلوب حياة مختلف يبحث عن عناصر مشتركة جعلت هذه المجتمعات الصغيرة يتخطَّى عمر أصحابها قرنًا من الزمان، وهم بعدُ فى كامل نشاطهم وروحهم الإيجابية، دون شكوى من أمراض ارتبطت عادة بكبار السن، ومنها الخرف والضغط وأمراض القلب والكوليسترول وغيرها من أمراض العصر. هذا ما يعدنا به المسلسل: حتى سن المئة، ذاكرتهم ممتازة وقلوبهم شابة ودماؤهم متدفّقة دون أدوية الضغط والسيولة!
وهدف الحلقات الأوسع جلب مفهوم "المناطق الزرقاء" إلى الحياة وتسليط الضوء عليها، وهى مناطق فى العالم يعيش فيها الناس عمرًا أطول. والحقيقة إنى أصبحت مع تقدم العمر نادرًا ما أنبهر بفيلم أو مسلسل بعد أن اختفت الدهشة والقيمة عن غالبية الأعمال الفنية؛ لكنْ فعلها دان بيوتنر، المستكشف والمؤلف الشهير الذى لديه أكثر من ٢٠ عامًا من الأبحاث حول المناطق الزرقاء، وأثرت فيَّ رحلته الآسرة لدرجة الانبهار، حيث تجولنا معه خلالها فى أوكيناوا باليابان؛ وسردينيا بإيطاليا؛ وإيكاريا باليونان؛ ونيكويا بكوستاريكا؛ ولوما ليندا بكاليفورنيا. تلك مناطق معروفة بسكّانها المعمِّرين ووصلت الرسالة بعمق فى المضمون وجمال فى الصورة.
ومن خلال الزيارات المنزلية الشخصية والمقابلات عن قرب التى أجراها بيوتنر، تكشف السلسلة الوثائقية عن العادات الغذائية التى تساهم فى الصحة الرائعة لهؤلاء السكان، بالإضافة إلى عوامل نمط الحياة الأخرى التى تؤثر على طول عمرهم منها المشى من منازلهم المرتفعة على التلال إلى الأسواق ومناطق الخدمات تحت سفح التلال؛ أيضا قيامهم بأنشطة الزراعة البسيطة مثل رى أشجارهم ونباتاتهم ورعاية حيواناتهم وطيورهم.
وتلخص كل منطقة مجموعة مبادئ متكاملة، وهي: تناول الطعام بحكمة ومن نباتاتهم وشجراتهم، وأداء حركات ونشاط بشكل طبيعي، والتواصل مع الآخرين؛ والجديد هو أن يكون هناك هدف محدد فى الحياة أو وجهة نظر تحفزهم على المشاعر الإيجابية. وهذه المبادئ يتابعها المشاهد فى جميع المناطق الزرقاء التى رصدها الفيلم فنرى كبار السن يحسنون اختيارات الأطعمة من بيئتهم، ويمشون يوميًا وسط الطبيعة، ويرتبطون بعلاقات اجتماعية قوية مع محيطهم من أهل وجيران وأصدقاء وحيوانات، ويؤدون أدوارًا فى الحياة، حتى لو كانت بسيطة. وجوهر الأمر، كما يشير بيوتنر، أن الكثير من الناس يموتون بسبب "مرض يمكن تجنبه". ويسلط بيوتنر الضوء على أن طول العمر الذى لوحظ فى المناطق الزرقاء ينبع من أسلوب حياتهم اليومية حيث أن الناس فى هذه المناطق لا يسعون عن قصد للمحافظة على الصحة؛ بدلًا من ذلك، تظهر صحتهم بشكل طبيعى بسبب البيئة الصحية المحيطة بهم. ويؤكد بيوتنر أن هذه الأفكار يمكن تبنيها بغض النظر عن العمر. ويشدِّدُ على أن تبنى أسلوب حياة المنطقة الزرقاء فى أى عمر يمكن أن يزيد بشكل كبير من متوسط العمر المتوقع. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدى البدء فى هذا الأسلوب بسن الستين إلى إضافة ست سنوات للعمر المتوقع، وبالنسبة للأشخاص الذين يتبنون هذا الأسلوب مبكِّرًا فى سن العشرين، قد يؤدى ذلك إلى زيادة متوسط العمر المتوقع بمقدار ١٣ عامًا.
وتعدُّ هذه السلسلة الوثائقية بمثابة صرخة من صانعيه فى وجه نمط الحياة الأمريكى والغربى السائد والذى ضجّ به أصحابه وأوصلهم إلى الأمراض المزمنة والمستعصية نتيجة الضغوط وتخريب الطبيعة وتناول الطعام المعدّل وراثيًا ناهيك عن الأغذية المُصنَّعة بالأملاح والصوديوم والمواد الحافظة. وينادى هذا العمل واضعى السياسات فى العالم لمقاومة العولمة التى تزحف على المناطق الزرقاء وتسعى إلى التنميط السيئ لأسلوب الحياة ونشر "المكدلة" و"الكوكلة" وسلاسل الطعام الجاهز الغارق فى الدهون ومكسبات الطعم واللون، ولا تجلب معها سوى الضغط والمرض والتخلى عن العادات والتراث والأصالة!
ألفة السلامي: كاتبة صحفية متخصصة فى الشأن الدولى