مر يوم ٢١ أبريل الجارى ٩ سنوات على رحيل الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى الذى عاش مهموما بقضايا الوطن وقضى أفضل سنوات عمره وشبابه بين السويس والإسماعيلية.
الأولى فى السويس فترات سن الشباب والإنتاج الشعرى والأدبى وفترات ما بعد نكسة يونيو ١٩٦٧ مرورا بحروب الاستنزاف وحتى النصر، حيث عاش بالسويس عقب خروجه من السجن وانضمامه إلى فرقة أولاد الأرض وهى الفترة التى شهدت توهجه فى كتابة الأغانى الوطنية وأفضل أغانيه الرومانسية بين شوارع المدينة التى دمرها العدو الإسرائيلى وقرى منطقة القطاع الريفى معايشا لفترة وطنية هامة فى حياة الوطن، وكان ذلك اختياره بإرادته المستقلة ليعيش فى السويس.
أما الفترة الثانية والأخيرة فقد كان يعيش فى الإسماعيلية تنفيذًا للتوجهات والتوصيات الطبية والصحية وحتى دفن فى مقابرها.
فى السويس وعنها يقول الأبنودى أعتبر أن تجربة السويس هى أفضل ما عشته فى حياتى.. بعد النكسة، ولم يعد لى فى القاهرة مكان مع جلد الذات لذا حملت متاعى القليل ملابسى يعنى والكتابين ورحلت إلى السويس لأعيش على شاطئ القناة مع الفلاحين من الأقارب والأصدقاء هناك فى جناين السويس عشت مع أسرة عمى إبراهيم أبوالعيون مع أم على وعلى وجمالات وسواهم من أبطال ديوانى وجوه على الشط.
قضيت السنوات الأولى من حرب الاستنزاف هناك فى مواجهة علم العدو الذى كان يرفرف أمامنا على الضفة الأخرى ومع جنود العدو أراهم وأسمع شتائمهم التى يوجهونها إلينا.
ويضيف الأبنودى رأيت إبراهيم أبوالعيون يقتلع شجرة المشمش التى يربيها منذ سنة وقف يشد بمساعدة جيرانه الشجرة التى لم يكن يقبل أن يمد أحدهم يده لالتقاط حبة واحدة من ثمارها حتى إذا اقتلعوها وضعها فوق دبابة مصرية بجدار بيته الطينى لتخفى الشجرة عن عيون العدو كما رأيته يبور الأرض لدواعى الحرب.
ونسج فلاحو السويس ببساطة ومن دون دعاية ولا افتعال واحدة من أعظم ملاحم الصمود حين أصروا على البقاء متمسكين بأرضهم على شاطئ القناة بالسويس.
من هؤلاء الفلاحين استمعت إلى قصص الجنود الذين عادوا من سيناء بثياب مهلهلة وأقدام متورمة من المشى الطويل وكيف كانوا يستقبلونهم بالطعام المتاح والشراب كما يستقبلونهم بالماء المالح والبصل وكان على هؤلاء الفلاحين وكأنهم أدركوا مهمتهم أن يكونوا أول من يمتص مرارة الجنود المصريين الذين اضطروا إلى الانسحاب من سيناء.
ويقول الأبنودى: ورأيت جنود منظمة سيناء الثورية التى تكونت من شباب السويس الذين كانوا يعبرون القناة ليقوموا بعملياتهم الفدائية ويذكر الأبنودى كان المثقفون يأتون لزيارة السويس لرؤية البيوت التى هدمتها الحرب وترديد الأغانى الحماسية مع فرقة ولاد الأرض وهى فرقة كونها الكابتن غزالى لأداء أغان وطنية ذات طابع شعبى بألحان بسيطة على آلة السمسمية.
عشت فى السويس أنتقل بين منطقتى الجناين وكبريت وكان عم إبراهيم أبوالعيون قد بنى خندقا بالأحجار وجذوع النخيل وفروع الأشجار.
يقول الأبنودى ذات ليلة شاركت مع ولاد الأرض فى أمسية فنية فى منطقة "المعمل" وبعد أن انتهت قررت المبيت فى الجناين رغم تحذير الجميع لى من الغارة الصهيونية التى كانت وشيكة والتى رصد عددا من جنود منظمة سيناء الثورية اثناء قيامهم بإحدى عملياتهم انطلقت النيران من الجانبين.
وما زلت أذكر صراخ جارنا عم "على" الكفيف الذى كان يسكن حوشا أشبه بعشة كان بعد الغارة يبكى بحرقة سألته عما به فقال لى الحمارة ماتت. كانت هذه الحمارة تعرف بطول العشرة المكان الذى يريد منها أن تحمله إليه فكانت تذهب به إلى المسجد ليصلى وإلى الدكان لشراء الشاى والدخان كما تحمله إلى بيوت أحبائه.
لذا يشعر بالفجيعة حيث أصبح غريبا غير قادر على مواصلة الحياة فقال بحرقه "فقدت وطنى والحرب تجربة رهيبة ».
هكذا لم أستطع الفرار من السويس ووحيها وكنت أعود قليلا إلى القاهرة لاستكمال تسجيل السيرة الهلالية وتأليف أغنيات لعبد الحليم حافظ مثل أغنية "المسيح" وأغان عاطفية كتبها لعبد الحليم منها "يا بلدنا لا تنامى ومن قلب المواكب " كما كنت أقيم فى ذلك الوقت أمسيات شعرية وغنائية بعد ذلك بدأ فى كتابة أغنيات مثل "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى" والتحقت بفرقة ولاد الأرض فى السويس التى كونها الكابتن غزالى بكل شباب المقاومة البمبوطية والعمال وغيرهم.
واختتم الأبنودى شهادته التاريخية عن السويس بقوله أعتبر أن تجربة السويس هى أفضل ما عشت فى حياتى بعد تجربة أبنود والسد العالى والاعتقال والحرب.
أما عن الأغانى الوطنية التى كتبها الأبنودى والتى كانت أكثر شهرة وتأثيرا على الشعب المصرى عبر المراحل التاريخية والوطنية تلك الأغانى التى كتبها على أرض السويس منها "موال النهار.. المسيح.. يا بلدنا لا تنامى دورى وسط الأسامى.. الخوف.. بحب السويس.. وابنك يقولك يا بطل.. واحلف بسماها وبترابها.. من قلب المواكب».
لكن تبقى الأغنية الخالدة والمحبوبة لكل أبناء السويس والتى تعتبر النشيد الوطنى للسويس والأغنية الرمزية التى يلتف حولها أبناء السويس جميعا ويطلقون عليها السلام الوطنى أو السلام الجمهورى المحبب باسم جمهورية السويس الوطنية كما يحب أن يطلق عليها البعض من الشباب المتحمسين وكأن السويس جمهورية حرة مستقلة بل تعتبر الأغنية أيقونة السويس هى أغنية "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى استشهد تحتك وتعيشى انتى" التى غناها الفنان المبدع محمد حمام من تلحين الموسيقار إبراهيم رجب.
أما عن أنشودة ولاد الأرض التى كتبها الأبنودى خصيصا لفرقة أولاد الأرض حين انضم إليها الأبنودى بالغناء أو بإلقاء الشعر فهى التى تغنيها الفرقة من ألحان الموسيقار حسن نشأت تقول كلماتها:
لأ وحياة العباد اللى هجرتها
وحياة البيوت اللى كسرتها
لا هترجع السوايسة للزيتية
والمرسى
ورمال الصحرا حاسه
بخطاوى الفدائيين
تلك الأغنية التى كانت أكثر حماسة لشباب السويس أثناء فترة التهجير.
كما عشق الأبنودى جغرافيا السويس وكتب عن كل قطعة أرض فيها حيث عشقها وأحب ترابها وبطولة شعبها وروحه الوطنية فنجد الأبنودى يكتب عن " مناطق الجناين - جبلايات الفار - أبو عارف - السيد هاشم - الرجولة شندورة - كبريت - كوبرى الكامنتو - محطة المياه متواصلًا إلى حى زرب - مسجد الغريب - المبيع - سوق الجملة للخضار والفاكهة - قهوة شعبان ومنها إلى منطقة الزيتية - السماد – بورتوفيق – الشط».
كما لم ينس الأبنودى أن يكتب عن الوشنة الاسم الذى يطلقه السوايسة على الآيس كريم بل كتب عن كلاب السويس ووصف حالتهم أثناء الحرب والهجرة.
أما عن علاقة الأبنودى بأبناء السويس المثقفين والفنانين والشخصيات العامة فكانت ممتدة فى التجمعات المتعددة التى تبدأ من مكتبة الكابتن غزالى والأمسيات الأدبية بنادى الأدب الكلمة الجديدة بالنادى الاجتماعى بحضور "الأدباء محمد الراوى - مصطفى نجا - على المنجى - حجازى غريب - محمود الخطيب - محمد حسن - على الخطيب وغيرهم.
كذلك السهرات والأمسيات بنادى النصر للبترول مع "خليل بدرة -عادل درديرى - المهندس شهاب - عوض مرزوق وكاتب السطور ».
وكانت أهم تلك الأمسيات مع فرقة أولاد الأرض بين الجنود والتجمعات العمالية والفلاحية والمهجرين من أبناء السويس فى المحافظات المختلفة هذا غير السهرات الإنسانية بالجمعيات الأهلية منها جمعية أبناء النوبة - أبنود وكذلك حضور المناسبات الاجتماعية حيث حضور التهنئة بالأفراح كان منهم حفل زفاف اليسارى مصطفى عبدالسلام بقاعة أفراح النادى الاجتماعى.
وهناك الكثير من اللقاءات والأعمال المشتركة بين الأبنودى مع ابناء السويس منهم الأستاذ محمد عروق مدير إذاعة صوت العرب الذى ساعده باذاعة أغنية "يابيوت السويس" بالإذاعة ومحمد بغدادى الصحفى والإعلامى الشهير وزوجته الصحفية كاميليا عتريس والصحفى على حامد وغيرهم.
وكانت تلك العلاقة مبنية على المودة والألفة والحب وعلى أحاديث ومناقشات قضايا هموم الوطن ومشاكله وقد تدخلت تلك العلاقات جميعها بين الأبنودى والسويس حتى قبل وفاته بأيام قليلة حيث لم تنقطع الاتصالات التليفونية مع البطل محمد حسن - النمس - والفدائى عبدالمنعم قناوى والمرحوم حافظ غزالى للاطمئنان عليه أثناء مرضه بل شارك وفد شعبى كبير من أبناء السويس شاركوا فى واجب العزاء فى الإسماعيلية جماعات وأفراد وكتب الكابتن غزالى ينعى الأبنودى بقصيدة شعرية قصيرة أو كما يطلقون عليها عدودة بالصعيدى، حيث كتب عقب الوفاة تلك العدودة:
يا بيوت السويس
يا بيوت مدينتى
مبدع نشيدك
تعيشى انتى
الوداع يا خال
آدى الدنيا
وآدى الحال
رحم الله الأبنودى شاعرًا وطنيًا محبًا للوطن وتحية فى ذكرى رحيله التاسعة.