رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ولكم في القهوة وداد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

للقهوة سحرها، لا سيما مع من يدمنون السفر أمثالى، سيحلو لهم إدمان القهوة. لن تشعر براحة عقلك ثم بدنك بالتبعية إلا مع فنجان قهوتك المعتاد بشروطك وطقوسك الخاصة. تصبح الحياة حينها مختلفة جدًا. بل إنك تشعر بالوطن فى صورة صغيرة. أنت فى المكان الذى تحب مع الإحساس الذى تحب. لذا يجب أن تحمل ولو "تلقيمة" فنجان واحد على الأقل من قهوتك المفضلة حين تسافر. ستنضبط فى ليلتك الأولى على مسارك المعتاد. وستشعر أنك أنت الذى تعرفه بسرعة، حينها تتحرك برشاقة فى خرائط المكان الجديد وأعماله. وابتسامة أول فنجان قهوة معروفة للجميع. لطالما تفاجأ طلابى من تغير لون بشرتى بعد شرب كل فنجان قهوة. لم أكن أعلم أن علاقتى بها وصلت إلى حد "فاضح" بالألوان إلا من دهشتهم تلك. 

من سافر إيطاليا يعلم تقليد "Coffee on the Wall».. إذ تجد بعض المقاهى تفرد لذلك التقليد لوحة من الفلين عليها أوراق ملاحظات ملونة مثبتة بدبابيس صغيرة. مكتوب على كل منها نوع قهوة أو حتى مجرد تعبير "قهوة على الحائط" إذا لم يكن هناك أنواع كثيرة من القهوة فى تلك المقهى. إن شعوب المتوسط مشهورون بأنهم مزاجيون كالبحر الذى يجاورنه ويجاورهم. ولأنهم يعلمون ذلك فإنهم طوال الوقت يحاولون الوصول إلى درجات مستقرة إن لم تكن عالية من "المزاج" لأن "قلة المزاج" بالنسبة لهم تعنى شجارًا كبيرًا وقلقًا طاحنًا». فهم لا يجيدون الحزن، يناسب ذلك من وجهة نظرى أننا نجد لديهم انتشارًا للأساطير والحكايات والمسارح الشعبية والنكات. هم طوال الوقت يربتون على مزاجهم. وفى إيطاليا يجدون أن من حق كل إنسان أن يصل لدرجة العقل المرتاح السعيد التى يقدمها فنجان قهوة. لكن لا يملك الجميع ثمن ذلك الفنجان. وغذا كنا لا نربط السعادة بالمال نظريًا فلماذا لا نقدم ذلك للعالم عمليًا؟! يمكن لكل زبون أن يدفع ثمن فنجان قهوة إضافى ولا يشربه، ويكتب بذلك ورقة ملاحظة على لوحة الفلين. أو يقوم النادل بذلك وفق طريقة الكتابة المتبعة فى المكان. ليأتى أحدهم بلا مال ويصبح مالكًا لقهوة مدفوعة مسبقًا. 

أعجبنى التقليد. لكننى أعلم أنه لا يمكن أن ينتشر بذات الطريقة فى دولة أخرى غير إيطاليا. وإلا لماذا لم نره فى أية دولة أخرى حتى فى اليونان مثلًا وهى تشبه إيطاليا فى كثير من التفاصيل؟! لكن يظل الأمر جميلًا أن نهدى المزاج الجميل لبعضنا البعض. هل يوجد أجمل من إهداء السعادة الجاهزة لأحدهم؟! حين عمدت لتطبيق الأمر هنا فى مصر. اخترت قهوة أعجبتنى جدًا وطلبت من النادل "من فضلك القهوة دى جميلة. ممكن أدفع تمن فنجان كمان لأى حد هيطلبها بعدي؟" اندهش وسألنى "هو فيه حد معين جاى بعد حضرتك حتدفعى له؟" فقلت له: "مفيش حد معين. أى حد حتى لو كنت انت». استأذننى وعاد لى بصحبة رجل أنيق عرفنى بنفسه أنه مدير المكان. قال لى: "سياسة المكان ما تسمحش يا افندم. ما بنعملش كده" قلت له: "الموضوع ابسط من سياسة المكان. أنا حادفع تمن الفنجان وهاسيب رقمى مع حضرتك وأول حد هيطلب قهوتى أنا عازماه. حضرتك هتمنعنى أعزم الناس؟!».

تلقيت اتصالًا بعد مرور حوالى نصف ساعة. يستئذننى قبل أن يقدم الكارت المدفوع مسبقًا لأحدهم. الغريب أن سبع زبائن رفضوا الدعوة المجانية. قبل الزبون رقم ثمانية. لكنه أصر على شكرى هاتفيًا وعلى أن يترك ليا كارتًا مدفوعًا بنوع قهوته التى يفضلها أى وقت أعود فيه للمقهى. شعرت بأن للقهوة لغة غريبة ودودة لدرجة قريبة جدًا من الجميع. شكرًا للأستاذ باسل من المنصورة الذى لم أره. لكننى أبادله فناجين القهوة حتى اليوم منذ حوالى الأربع أشهر.

مازلت أمارس هذا الطقس فى كثير من زياراتى لأماكن أحب قهوتها. أترك الوقت الجميل لأشخاص لا أعرفهم. الحياة تحتاج لمزيد من الإشارات للجمال. اتركوا خلفكم إشارات للجمال. واعلموا أنه لن يجيدها التقاطها إلا الجميلون.