"لكل إنسان تاريخ ميلاد وآخر للموت، وصلاح جاهين من القلة الاستثنائية التى ولدت وعاشت مرتين، وفقا للأوراق الرسمية فقد ولد فى الخامس والعشرين من ديسمبر سنة 1930، ورحل فى الواحد والعشرين من إبريل سنة 1986، وبالنظر إلى الحقائق التى تتجاوز السجلات والوثائق، فقد ولد فى الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952، وغيبه الموت فى طوفان الهزيمة الذى اجتاح الوطن فى الخامس من يونيه سنة 1967.
كان ميلاده الحقيقى مع الثورة التى جسدت أحلامه فأبدع فى التعبير عنها والتهليل لإنجازاتها، أما موته النفسى فقد اقترن بالكارثة التى زلزلت الأحلام الوردية وصنعت الكوابيس السوداء، إذ أدرك يومها أنه أنفق عمره فى الغناء على الناس وليس الغناء لهم!"
هكذا وصف الكاتب والناقد الكبير مصطفى بيومي العملاق متعدد المواهب صلاح جاهين؛ والذي كان يتنقل بين الشعر والرسم والتمثيل والصحافة ببساطة، وكأن كلٌ منها كانت موهبته الوحيدة التي برع فيها، فشاهد الناس رسومه، وسمعوا أشعاره، وشاهدوا أفلامه؛ وكان هو نموذجًا لمن سجلت مواهبه، تجربة أمة بكل حالاتها.
يرى بيومي "صلاح الدين بهجت أحمد حلمى"، الشهير بـ "صلاح جاهين"، كان "صاحب سبع صنايع، ونموذج عبقري للمبدع الشامل الذى يقدم رؤى بالغة العمق والبساطة والعذوبة".
جاهين سليل عائلة عريقة، فلا يكاد أحد من المصريين يجهل اسم جده الذى يحمله أحد أهم شوارع القاهرة «أحمد حلمى»، أما الأب بهجت فكان رئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة.
ويؤكد بيومي أن عظمة الابن صلاح تختلف عن أبيه وجده "فهو جملة من المواهب النادرة فى جسد واحد، شاعر ورسام وصحفى وكاتب سيناريو وممثل، فضلًا عن أنه فيلسوف شعبى على طريقته الفريدة، ذلك أنه فيلسوف «أولاد البلد» فى المصريين الأصلاء، أولئك الذين يتوارثون الحكمة وينتجون الحضارة ويجمعون فى عبارة واحدة بين المرح والشجن، يقدسون الموت، ويعشقون الحياة، يدمنون الحب والتسامح، ولا يعرفون الكراهية والتعصب".
بدأ صلاح حياته العملية في جريدة بنت النيل، ثم جريدة التحرير، حيث أصدر أول دواوينه "كلمة سلام" عام 1955، وبدأت شهرته في منتصف الخمسينيات كرسام كاريكاتير في مجلة روز اليوسف، ثم في مجلة صباح الخير التي كان واحدًا من مؤسسيها، ولفت انتباه الجميع بشخصياته رسومه التي تُعبر عن حال المصريين، مثل قهوة النشاط، والفهامة، وغيرها من الشخصيات؛ وكانت رسومه مؤثرة، لدرجة أنها تسببت أكثر من أزمة مثل استباحة طلاب الأزهر دمه وتظاهرهم أمام جريدة الأهرام بسبب خلافه مع الشيخ الغزالي لإحدى رسومه عند مناقشة مشروع الميثاق، كما أجرى معه المدعى العام الاشتراكى تحقيقًا بسبب كاريكاتير، انتقد فيه تقريرا لأداء إحدى جهات الدولة.
تألقت أشعار جاهين فأصدر ديوانه الأشهر "الرباعيات"، ثُم "قصاقيص ورق"، كذلك العديد من الأشعار الوطنية التي تغنى بها كثيرون، منهم عبد الحليم حافظ "صورة، بالأحضان، والله زمان يا سلاحي"؛ كذلك قدّم العديد من المسرحيات مثل "القاهرة في ألف عام"، وكتب أغانى وأشعار العديد من المسرحيات والأعمال التليفزيونية والإذاعية؛ ولا يزال أوبريته الأشهر "الليلة الكبيرة" الذي قام بتلحينه سيد مكاوي، وقدمه المخرج صلاح السقا على مسرح العرائس، أهم أعمال مسرح العرائس في مصر حتى الآن.
بالعامية
تأتى عامية صلاح جاهين باعتبارها مستوى من مستويات اللغة العربية الخمسة التى تحدث عنها العالم اللغوى الراحل الدكتور السعيد بدوى فى كتابه «مستويات العربية المعاصرة»؛ لكن فى تقديمه لديوان جاهين الأول «كلمة سلام» عام 1955 حاول الكاتب الكبير رجاء النقاش أن يقيم رؤيته للعالم على أساس وجود ثنائية يتصارع طرفاها، وهما الشعر الرسمى والشعر الشعبي، هكذا اعترف بعبقريته مع تصنيفه باعتباره «شاعر شعبي»، رافضًا للمصطلح الذى قدم به جاهين ورفاقه أنفسهم وهو «أشعار بالعامية بالمصرية». لكن، تجسدت عبقرية صلاح جاهين الشعرية، خاصة فى رباعياته، فى القدرة على التعبير عن قضايا فلسفية بالعامية، لذا، بينما اعترف الكاتب الكبير يحيى حقى بعبقرية الشاعر جاهين، كان فى الوقت نفسه يتمنى أن تكون رباعياته «عاقرًا» حتى لا يستمر فى تهديد الفصحى فى عقر دارها.
في عام 2006، أصدرت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة كتابا عن صلاح جاهين بعنوان «صلاح جاهين رؤى ودراسات» يحوى دراستين تعكسان استمرار محاولات الاحتواء لصلاح جاهين والرفض لشعر العامية على مستوى الوعى النقدى بالشعر؛ الدراسة الأولى «فصاحة العامية فى رباعيات صلاح جاهين» للناقد الدكتور محمد عبدالمطلب، أستاذ النقد والبلاغة بجامعة عين شمس، الذى قام بإحصاء عدد كلمات الرباعيات، مُميزًا منها بين الفصيح والعامي. قد يُفاجأ البعض بأن 82% من كلمات الرباعيات فصحي، وأن نسبتها للعامية يأتي، حسب عبدالمطلب، من الظواهر اللغوية المصاحبة لعملية التحولات اللغوية صوتيًا وتركيبيًا ودلاليا من الفصحى للعامية. تبدو غاية الدراسة وكأنها متمثلة فى إثبات فصاحة العامية فى الرباعيات، ما يكشف عن محاولة لاحتواء عبقرية الرباعيات بالتشكيك فى نسبتها للعامية على مستوى التحليل اللغوى الإحصائي، لتصبح هذه المعالجة اللغوية البحتة للنص الشعرى آلية من آليات رفض شعر العامية واحتواء الشاعر العبقرى جاهين فى لحظة الاحتفاء به.
أما الدراسة الثانية فهى «صلاح جاهين ليس مجرد شاعر عامية» للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى الذى كتب عن جاهين «ليس مجرد شاعر عامية، والعامية وحدها لا تعرفنا به، وإنما الشعر هو الذى يعرفنا به، إنه شاعر»، ليظهر أن حجازى لا يريد أن يعترف بالرجل شاعرًا إلا بعد أن يسلب من العامية التى دومًا ما وصف بها جاهين أشعاره حقها فى أن تكون أبرز ملامحه الشاعرية؛ لذا يبدو فى الدراسة أنها تشمل كل عناصر الشعرية إلا اللغة، بينما مفهوم صلاح جاهين نفسه عن الشعر أنه ضمير لا يتجزأ، فلا حركات إعرابية يمنح وجودها قداسة للمفردات ويمنع غيابها عن مفردات أخرى هذه القيمة المسبقة المحفوظة للكلمات خارج دائرة الشعر، فى الوقت نفسه لا يكون الشعر عند جاهين دون اللغة.
وبعيدًا عن التصنيفات اللغوية، وبعيد عن الرباعيات، جاء الكثير من أشعار صلاح جاهين ليعكس مفردات عصره، خاصة الحقبة الناصرية، فتناول شعار الاشتراكية ومطالب الشعب فى ثورته الحديثة آنذاك، حين يرفع شعارات محاربة الفساد والرشوة ومحاكمة مصاصى جهد الشعب، كذلك رفع رواتب العمال والموظفين وتوفير فرص العمل للشباب؛ كذلك كان واحدًا ممن رسّخوا صورة جمال عبدالناصر القائد المحبوب والرئيس «ابن البلد» الذى يصبو لتحقيق آمال شعبه.
أما أغنيات صلاح جاهين، فقد صنعت حالة من البهجة والحماسة منذ النصف الثانى من القرن العشرين، عشرات الأغانى التى تنوعت حالاتها بين العشق والوطنية والحياة؛ لكن واحدة من هذه القصائد وهى «ولد وبنت» مُنعت من لجنة النصوص فى الإذاعة التى لم تسمح بتسجيلها، وعندما سأل جاهين وقتها عن السبب، كان الرد أنها قصيدة مباشرة، وقال عنها فى لقاء تليفزيونى عام 1977 «لما سألت عن السبب.. قالوا إنها صريحة ولازم تبقى ورا الستار لكن متتقالش على البلاطة كده»، لكنها فيما بعد خرجت للنور بصوت على الحجار.
الممثل
لأعوام طويلة كان جاهين يُردد لمن حوله أنه «مُمثل بالسليقة»، رغم أنه طوال تلك الأعوام «لم أكن قد وضعت قدمى في بلاتوه، أو أحرقت وجهى لمبة واحدة أو ذقت مرارة شاى الاستديوهات»؛ كما حكى هو نفسه.
ورغم أن فرصته الأولى كانت تجربة أداء لدور صغير في واحد من الأفلام التي تدعم ثورة يوليو، وكانت تلك واحدة من أهداف الإنتاج السينمائي تلك الفترة؛ وقتها، قال إنه حين علم بترشيحه للدور، تجاهل جسده الضخم قوانين الفيزياء، حتى أنه ذهب إلى بيته راقصًا وهو يُردد «ح أمثل قدام فاتن حمامة ورشدى أباظة بحالهم». وبالفعل وقف أمام الكاميرا لأول مرة في وجود مخرج عملاق هو صلاح أبوسيف -وكان واحدًا من أساطير الشاشة الساحرة- لكنه انهمك في تجربة الأداء وكأنه كان مرشحًا لدور البطولة. كان يُمثّل، ولم يشعر سوى بالمخرج الذى كان يُتابعه بإعجاب وهو يقول فور انتهائه من المشهد: «ستوب.. هايل يا أستاذ.. رائع يا أستاذ.. عظيم يا أستاذ». بهذه الكلمات البسيطة عرف جاهين أنه قد حصل على دوره الأول في فيلم «لا وقت للحب».
فتح هذا الدور البسيط بوابة لعلاقة قوية بين جاهين والسينما، حيث استعان به المخرج كمال الشيخ مرة أخرى، عندما قرر مع الأديب العالمى نجيب محفوظ تحويل رائعته «اللص والكلاب» إلى فيلم من بطولة شكرى سرحان وشادية. كان صلاح جاهين هذه المرة يتقمص أحد كبار الحارة التى كان يعيش فيها البطل «سعيد مهران». وظلت في ذهن الجمهور طريقته في الحديث بعد سقوط أحد الأبرياء برصاص طائش وهو يقول: «دنيا لها العجب، خردواتى لا له في الطور ولا في الطحين يموت عشان نبوية اتجوزت عليش».
قام جاهين بعد ذلك بأدوار في أفلام «من غير ميعاد، وشهيدة العشق الإلهي، القاهرة، المماليك»؛ ورغم نجاحه في التمثيل، إلا أنه توقف عنه مدة قاربت الخمسة عشر عامًا، حتى عاد إليه من جديد في دور صغير في فيلم «موت أميرة» وهو فيلم وثائقى بريطانى وكانت آخر أدواره مع يوسف شاهين في فيلم «وداعًا بونابرت».
السيناريست
كما حقق جاهين حلمه في أن يكون ممثلًا، فلا ننسى كذلك أنه كان سيناريست بارع، نافس بدوره جزء الممثل في شخصيته؛ بل وربما كان حظه أفضل أيضًا، حيث أطلق يده في أن يمسك مصائر كافة شخصياته، وأن يتقمص كل منهم على الورق، بدلًا من أن يؤدي شخصية واحدة منهم أمام الشاشة.
صنع جاهين حالة مُبهجة في السينما شاركته إياها السندريلا الراحلة سعاد حسني؛ بدأت عندما كتب بعض اسكتشات "الأراجوز" في فيلمها «الزوجة الثانية» الذي شاركها فيه البطولة شكري سرحان والممثل الكبير صلاح منصور، وقام بإخراجه صلاح أبوسيف -الذى منح جاهين خطوة التمثيل الأولى- لكنه برز بقوة عندما كتب السيناريو والحوار والأغانى لأشهر أفلام السبعينيات «خلى بالك من زوزو»، والذى أخرجه حسن الإمام، وتألقت فيه سعاد بقوة وهى تمثل وتغنى بصوتها الشقى «الفتاة المثالية، خلى بالك من زوز، يا واد يا تقيل»، والاستعراض الأخير «استنى استنى» على ألحان كمال الطويل، وسيد مكاوي، وإبراهيم رجب؛ وكان من المقرر أن يتضمن الفيلم أغنية «البوسة» التى لحنها بالفعل بليغ حمدي، وتم تصويرها ضمن مشاهد الفيلم، لكن بعد تصويرها اعترضت الرقابة على مضمونها، بحجة خدش الحياء العام، والخروج عن تقاليد المجتمع؛ وأصرت الرقابة على تزمتها وموقفها، ليتم حذف الأغنية. بعد ذلك بثلاثة أعوام اجتمع جاهين والسندريلا ليقدما المرح والحركة والسعادة مرة أخرج عبر فيلم «أميرة حبى أنا»، والذي كتب له جاهين السيناريو والحوار وظهرت لأول مرة الأغنية الشهيرة «الدنيا ربيع» التى لا تزال أيقونة للفرحة حتى الآن.
ومن الكوميديا وأجواء الفرح إلى الدراما، حيث صنع جاهين من عبقريته واكتئابه مزيجا صار أحد أبرز الأفلام في مشواره الفني، فقدم مع سعاد حسني أيضًا فيلم «شفيقة ومتولي»، من إخراج على بدرخان، والذى قامت ببطولته أمام عبقرى آخر هو الراحل أحمد زكي، وشاركهم البطولة الكبار أحمد مظهر وجميل راتب ومحمود عبدالعزيز، ولا تزال أغنيته «بانوا بانوا» واحدة من أروع الأغنيات الدرامية في تاريخ السينما المصرية.