رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة لايت

سطر في حب الأبنودي.. بين ميلاده ورحيله

الشاعر الراحل عبد
الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


لم يكن موت شاعر، لكن كان انقطاع وحي حدث الناس بألسنتهم، سكن أفئدتهم ونطق ما جال في صدورهم، كان روحا أينما حلت في جسد كانت صاحبه، لم أجد وصفا له أبلغ مما قاله عن نفسه "أنا الدرويش"

أنا الدرويش..
أنا السابح بمسبحتي..
ومبخرتي..
وتوبي الخيش..
أغنيلك..
وأموّلك مواويلك..
ماتسمعنيش..
ولا تشوفينيش
إن عظمة الأبنودي لم تكن في تشكيل الحرف وزخرفته ولا في استخراجه من المعاجم ولكن في بساطته، في عرضه طازجا بجمعه من على شجره في أوان طرحه، في أخذه كما هو من أفواه أصحابه.. عظمة الأبنودي في أنه ترك القلم والسطر لأبطاله يملوا عليه ما يكتبه فإذا ما زار عمته يامنة كان مستمعا قبل أن يكون كاتبا فخرجت القصيدة ملحمة حياة.
والله وشبت يا عبد الرُّحمان..
عجّزت يا واد ؟
مُسْرَعْ؟
ميتى وكيف؟
عاد اللى يعجّز فى بلاده
غير اللى يعجز ضيف !!
هلكوك النسوان؟
شفتك مرة فى التلفزيون
ومرة.. ورونى صورتك فى الجورنان
قلت: كبر عبد الرحمان!!
أمال انا على كده مت بقى لى ميت حول!!
والله خايفة يا وليدى القعدة لتطول

لم تقف براعة الأبنودي عند حدود خلق بطل واحد للقصيدة بل تمكن حتى بات يوزع الحرف على من حوله كمن يوزع رغيف خبز على الجوع، فيطعم أرواحهم ويخلق أبطالا للواقع من العدم وطاوعه الحرف فصنع منه حوارا، إيمانا به فإذا ما التقمه جراحي القط عامل السد كتب لزوجته:

يا أم أولادي يا إنسانة الناس
لا العلم مليح
العلم لا عيون تنعس في الليل
ضحكة من
القلب صحيح
عدم المعرفة بيخلي الرجالة عيال
يضحكوا يبكوا
و دايما للدنيا طعم جديد

يسكت الأبنودي جراحي.. يحوله بسلاسة من راسل إلى المرسل إليه.. يكتفي أن يكون ساعي بريد آمين لا يخطئ العنوان ولا يضيع حرفا وإن طالت المسافات فإذا ما وصلت الرسالة لفاطمة أعطاها القلم والمدواة والسطر لتكتب ما يجول بها صدرها دون أن يمارس سطوة أو يتفاخر بمعرفة أو يحبسها في إطار المفروض والمفروض فتقرأ الكلمات بشعور اشتياق الزوجة لزوجها:

شهرين يا بخيل؟
ستين شمس وستين ليل؟
النبى يا حراجى ما أطول قلبك
لاقطع بسنانى الحته القاسية فيه

لم يكن الأبنودي شخصا واحدا لننعيه بل كان أشخاصا منهم من مات ومنهم مازال على قيد الحياة، كان روحا هائمة تسكن الجماد فينطق وتسكن النبات فيزهر وتسكن الإنسان فيئن ويفرح ويصرخ.. كان عبد الرحمن.. عبادا لله على الأرض:
انا عبد الله مش عبد الرحمن
زى ما الشيخ اوصانى

فينك يا عبد الرحمن.. يا عبد الله..يا احلا من يغنى الفراق.. تيجى تغنى زحمة الشهداء.. والدم فى فلسطين.. وعلى توب العراق.

لم يمت الأبنودي لكنه يولد كل يوم في قرى مصر.. يغسل وجهه بماء النيل ويجفف عرقه بثراها. يحترق من شمسها.. يكره ليلها ويبكي إذا ما عدى النهار.. يعيش في "الزحمة" يبذر عافيته بين "الأرض والعيال".. يشكو من "أحضان الحبايب".. يقف في "قنا" ويصل صوته إلى أرض الأنبياء "صباح الخير يا سينا".. يطوف بحرفه على البيوت يروي "قصص الحب الجميلة" ويقول بما تبقى فيه من عزم "يا بلادنا لا تنامي".

كانت وصية الأبنودي في آخر قصائده أن يشيع جثمانه كما عاش حرفه.. أن يتركوه للناس الذين كان منهم وعاش بينهم وكتب عنهم.. أن يحملوه كما حمل أحلامهم.. أن يحكوا عنه كما حكى لهم.. أن يرددوا قصائده في التأبين وينثروا له في مشواره الأخير الحروف محبة..

ولا اطلع من عمر مكرم
ولا أتلف بالأعلام
حاموت في قرية
عريانة من الإعلام
مواطن زى جيرانى
وحامشيها على كتافهم
فدول أطيب ودول أكرم
وروح الحب في قلوبهم
لا مهرجانات ولا أفلام.
تراب أقدامهم العالية
نشيد إنسانى ومشاعر
وفيهم ناس تشيعنى عشان طيب
وناس بتحبنى شاعر
ولا طلعوا بقطط فاطسة
ولا جرحوا في يوم صدقى
ولا وصفونى بالأظلم...
ودول مش أهل بقرابة
ودول ناس يزرعوا خيرهم
سوا ليهم.. سوا لغيرهم
وضحكتهم شديدة الصدق
ودمعتهم أصيلة الحزن.