الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: محمد فوزي.. بلدي أحببتك يا بلدي

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قفز بالأغنية المصرية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة 

أمثاله لا يموتون.. ولا يغادرون ذاكرة الوطن

أجمل ما فى شخصيته أنه لا يشبه أحدًا ولا يقلد ولا يسهل تقليده

فاطمة رشدى وعزيز عيد أول من اكتشفا موهبته في التلحين

أعماله الموسيقية والسينمائية ذات توجه وطنى واجتماعي مستنير

محمد فوزى «1918 - 1966» من علامات وأعلام الفن المصرى فى القرن العشرين، والسمة الأبرز فى إبداعه الغنائى والتلحينى والسينمائى تتمثل فى ذلك المزيج النادر من البساطة والانطلاق والحرية، ذلك أنه مسلح بالروح الشعبية المرحة الأصيلة، وكاره للزخرفة والادعاء والإسراف فى الصنعة.

فى كل الفنون التى يمارسها محمد فوزى، ينبع أداؤه من القلب، ويسهل وصوله إلى القلوب. جماله الأخاذ يقترن بالعفوية، فهو يغنى كأنه لا يغني، ويلحن فيشعر المستمعون من فرط الصدق بأنها ألحانهم، ويمثل فيوقن المشاهد أن الشعور بالغربة لا موضع له فى ظل الحضور المتوهج.

يظهر محمد فوزى فى عصر مزدحم بالأفذاذ من المواهب، السابقين له والمواكبين واللاحقين فى الساحة الغنائية، يتزامن تألقه مع الوجود الفعال الطاغى لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب وعبدالغنى السيد وعبدالعزيز محمود وكارم محمود ومحمد قنديل وعبدالحليم حافظ، ويعاصر عمالقة التلحين: محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطى ومحمد القصبجى ومحمود الشريف وفريد الأطرش. كيف يستطيع الصمود والتفوق، مطربا وملحنا، فى منافسة هؤلاء جميعا؟ وكيف ينجح سينمائيا فى ظل الصراع المحتدم الذى لا متسع فيه للبقاء إلا للموهبة الأصيلة التى تملك الإمكانات المؤهلة للمنافسة؟

أجمل ما فى محمد فوزى أنه لا يشبه أحدا، فلا يقلد ولا يسهل تقليده. متفرد هو فى الغناء والتلحين والتمثيل، وهو كذلك أيضا فى نمط حياته وأسلوب معيشته ومنهجه فى التعامل مع الآخرين.

من ناحية أخرى، يتميز محمد فوزى دائما بالنقاء الذى يحول دون التورط وإضاعة الوقت فى صراعات وهمية ومعارك بلا محصول، ويفيد الفنان الكبير من هذه السمة الشخصية فيتضاعف عمره القصير.

رحلة الحياة 

يولد محمد فوزى حبس عبدالعال الحو، الشهير بمحمد فوزي، فى الثامن والعشرين من أغسطس سنة ١٩١٨، وكان مولده فى قرية «كفر أبو الجندي»، التى تبعد عن مدينة طنطا بعدة كيلومترات. الأب من قراء القرآن الكريم، والأم فلاحة بسيطة لا تجيد القراءة والكتابة. الظروف الاقتصادية أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى، أما الوفرة الحقيقية ففى عدد أفراد الأسرة. محمد فوزى يحمل رقم «٢١» فى قائمة الأخوة، ولم يكن أصغرهم أو آخرهم!.

يتلقى تعليمه الأولى فى كتاب القرية، ثم يلتحق بالمدرسة الابتدائية فى طنطا، ويحصل على الشهادة سنة ١٩٣١، لكنه لا يلتحق بالتعليم الثانوى لفرط انشغاله بالغناء وولعه بالموسيقى، يذيع صيته مطربا يردد الأغانى الشائعة لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، فى حفلات المدارس والتجمعات الشعبية للموالد.

يعارض الأب بضراوة توجه الابن الموهوب، وعلى الرغم من الرقابة الصارمة يتعلم فوزى أصول الموسيقى العربية، متتلمذا على يد عسكري المطافئ محمد الخربتلي، عضو فرقة طنطا الموسيقية، ومع أستاذه هذا يجوب الفنان الصغير معظم القرى المحيطة بطنطا، ويندمج فى العالم الثرى لمولد السيد أحمد البدوي.

كان محمد فوزى محظوظا إذ يستمع إليه الملحن المعروف مصطفى العقاد، ضابط الإيقاع فى الموسيقى العربية، يعجب بصوته فيساعده على الالتحاق بالمعهد قرب منتصف الثلاثينيات، ولم يكن بد فى السفر إلى القاهرة لتبدأ مرحلة جديدة فى حياته.

يسافر دون موافقة الأب ورضاه، بكل ما يترتب على ذلك من توقف الدعم المادي. يصطدم الشاب الصغير بالغربة والفقر معا، وتستمر المعاناة الرهيبة حتى تُتاح له فرصة العمل مطربا فى فرقة بديعة مصابني، مدرسة المسرح الاستعراضى فى تلك المرحلة، وهى الفرقة التى تحتضن عشرات الأسماء البارزة فى تاريخ الفن المصري.

يتعاقد فوزى مع بديعة بأجر يصل إلى سبعة جنيهات شهريا، وهو مبلغ كبير بالنظر إلى مستوى الأسعار فى الثلاثينيات من القرن العشرين، لكن الفنان مرهف المشاعر يستقيل سريعا تضامنا مع الراقصة لولا، التى يحبها ويحتج على فصلها من الفرقة، ترفض بديعة عتابه، وتصارحه بأنه يجب أن يكون سعيدا لأنه لم يُفصل معها، ينفعل فوزى فيقدم استقالته مضحيا بالراتب الكبير نسبيا، الذى ينتشله من حياة الفقر.

يخرجان معا من الفرقة لتشكيل ثنائى يتجول فى أنحاء مصر، ثم يعودان ليستقر فوزى فى فرقة فاطمة رشدي المسرحية، وكانت عملاقة المسرح المصرى وزوجها المخرج الكبير عزيز عيد، هما أول من اكتشفا موهبته فى التلحين.

فى غضون ذلك، يتخرج فوزى فى معهد الموسيقى العربية، جامعا بين الدراسة العلمية والخبرة العملية، ويبدو واضحا أن احتراف الفن هو المستقبل الوحيد الذى ينتظره، لقد خُلق ليغنى ويلحن، ويمثل أيضًا.

تألق وتوهج 

يعمل محمد فوزى عاما واحدا مع فرقة فاطمة رشدي، ثم تلحقه الفنانة القديرة بالفرقة القومية، لم تكن تجربته المسرحية ناجحة، ولعل فى غياب القدرة على التوافق مع آليات الفن المسرحي، حيث المواجهة اليومية المباشرة مع الجمهور، ما يبرر ويفسر انصرافه عن تكرار خوض التجربة فى المراحل التالية من حياته.

لم تكن تجربته المسرحية ناجحة، لكنها تقوده إلى المحطة الأهم والأخطر فى حياته، السينما، طفرة حقيقية تتمثل فى انتباه عميد المسرح العربى يوسف وهبى للموهبة الشابة، بعد مشاهدته والإعجاب به، سرعان ما يتحول الإعجاب إلى تعاقد للقيام بدور ثانوى فى فيلم «سيف الجلاد» سنة ١٩٤٤، وبعد الفيلم الأول يرتقى سريعًا من طائفة الكومبارس إلى البطولة الثانية فى فيلم «قبلة فى لبنان» سنة ١٩٤٥، ثم تبدأ رحلته العريضة مع السينما بطلا منفردًا ذا شعبية طاغية، يقدم أربعة وثلاثين فيلما غير هذين الفيلمين اللذين بدأ بهما.

يتوافق النجاح السينمائى لمحمد فوزى مع نجاحه اللافت مطربا وملحنا، وعبر ربع قرن تقريبا يقدم أكثر من أربعمائة لحن لنفسه وللآخرين، ومن الأصوات التى تغنى له: «ليلى مراد، هدى سلطان، شادية، صباح، إسماعيل يسن، محمود شكوكو، نور الهدى، سعاد محمد، نازك، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، شهرزاد، شريفة فاضل، ماهر العطار».

يقفز محمد فوزى بالأغنية المصرية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة، وفى إبداعه الموسيقى الحافل بالعطاء المختلف نجد أشكالا شتى ومغامرات رائدة: «الأغنية الخفيفة المرحة، الرومانسية العاطفية الشبابية، الدينية الروحية، أغنيات الأطفال»، فضلا عن ريادته التى لا جدال حولها فى مجال الأغنية السينمائية الاستعراضية.

مشروع عملاق 

الإنتاج السينمائى هو المحطة الأولى فى رحلة محمد فوزى مع اقتصاديات الفن، ويعود تأسيس شركته الإنتاجية الخاصة إلى العام ١٩٤٧، ومن الإنتاج السينمائى ينتقل إلى شركة «مصر فون» لإنتاج الأسطوانات، وهى أول شركة من نوعها فى الشرق الأوسط، ينذر فوزى لمشروعه هذا كل مدخرات عمره، ويتفرغ لإدارته وتطويره، ويحقق نجاحا مدويا ومجديا لمن يتعاملون معه من كبار الفنانين والفنانات، لكن عاصفة التأميم تهب عاتية لتطيح بالمشروع الناجح الجسور، وتضع نهاية تعيسة مؤلمة لفكرة جديرة بالتشجيع.

يولد المشروع عملاقا فى الثلاثين من يوليو سنة ١٩٥٨، ويفتتحه وزير الصناعة الدكتور عزيز صدقي، الذى يشيد بالفكرة الإيجابية البناءة التى توفر العملة الصعبة وتتيح إنتاج أسطوانة محلية رخيصة السعر وغير قابلة للكسر، ويمكن استخدامها على الوجهين فتتسع لأغنيتين.

لم يكن قرار تأميم شركة «مصر فون» يستهدف شخص محمد فوزي، فهو لم يكن ذا موقف سياسى معارض يستدعى عقابه والتنكيل به، حياته كلها قبل ثورة يوليو وبعدها منذورة للفن والإبداع، وأعماله الموسيقية والسينمائية ذات توجه وطنى واجتماعى مستنير، أما سيرته الشخصية والعائلية ففوق مستوى الشبهات، الظلم الفادح الذى يطوله جزء من منظومة عامة تطيح بالكثيرين غيره، ممن يُعاقبون بتهمة النجاح، وتتم إدانتهم لفرط النشاط الإيجابي، وعندئذ يهبطون بلا مقدمات من ذروة العطاء والحيوية إلى هاوية البطالة والركود.

قد يكون مفهوما أن تتدخل الدولة لتفرض ما تراه مناسبا من أجل تنظيم العمل الفنى والارتقاء بمستواه، لكن غير المبرر على الإطلاق هو أن تتحول الدولة إلى منتج لا يتقن آليات وخصائص السلعة التى يقدمها، ولعل فى مسار «مصر فون» بعد التأميم ما يؤكد أن البناء الذى يشيده فرد مخلص بالجهد والعرق، يفسده سريعا أهل الثقة ممن يجهلون طبيعة وخصوصية العمل المسند إليهم.

الفنان الكبير ليس من المستغلين أعداء الشعب، ولم تكن الأموال التى ينشئ بها مشروعه مشوبة بما يسيء إليه أو يشكك فى نزاهته، لكن المناخ العام كان يسير فى اتجاه مدمر بلا منطق رشيد يحكمه، يتأثر محمد فوزى بالصدمة القاسية غير المتوقعة، وتبدأ مسيرته المضنية مع المرض، ينخفض وزنه من ٧٧ إلى ٤٠ كيلو فقط، ولا يجد الأطباء الأمريكيون تفسيرا طبيا يبشر بالعلاج أو يكشف عن الغموض المحير، وما زالت الموسوعات الطبية العالمية تشير إلى المرض الغامض المعقد باسم محمد فوزي!

خمس سنوات من المعاناة، بين عامى ١٩٦١ و١٩٦٦، وفى العشرين من أكتوبر سنة ١٩٦٦ يرحل الفنان الكبير قبل عامين من الوصول إلى الخمسين.

أحببتك يا بلدى

الإيمان بالوطن، فى أحلك الظروف، من الدروس المهمة المستخلصة من حياة الفنان الكبير، وآية ذلك أنه ينجح إلى اليوم الأخير من حياته فى الفصل بين المعاناة الذاتية والتسامح الموضوعى الذى لا أثر فيه للمرارة.

لم يكن ضياع «تحويشة العمر» بالصدمة الهينة، وكان الشعور بالغضب واردًا ومبررًا، لأن التعرض للظلم الفادح يسيء ويدمى القلوب، لكن الفنان الوطنى كتم انفعالاته السلبية وتعذب فى صمت، وصمدت وطنيته الأصيلة للمحنة التى تدفع غيره إلى سلوك معيب مشين.

قبل أيام قلائل من موته، يكتب محمد فوزى رسالة ووصية، وكل كلمة تنم عن شعوره الغامر بالارتياح، لأنه يؤدى واجبه كاملًا.

لا يخفى قلقه على مستقبل أولاده الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والعاشرة، لكنه يبدو عظيم الثقة بأن الوطن كفيل بهم.

لا أثر للمرارة فى كلماته الدافئة البسيطة، ولا يكاد قارئ الرسالة يستوعب حقيقة موت الفنان القدير فقيرًا لا يستطيع أن يدبر تكاليف علاجه، وهو من كان قبل سنوات قلائل يملك آلاف الآلاف، ويأبى أن يكنزها، مؤثرًا استثمارها بما يعود على الجميع بالخير.

الأوطان باقية، أما الأفراد فزائلون، وكذلك الأنظمة التى تتبدل سياساتها وفق اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب.

مثل الأرض المصرية الطيبة فى عطائها المتدفق الذى لا يتوقف، كان محمد فوزي، ومثل النيل مانح الخير والخصوبة يعيش فنان الشعب ليعطى ويمنح البهجة والمتعة، أمثاله لا يموتون ولا يغادرون الذاكرة الوطنية، ففى كل ساعة تتجدد ذكراه، وفى كل لحظة يستمع إليه ويشاهده وينتشى بعطائه ملايين من البشر، يجدون فيه إنسانا مصريا بسيطا يجتهد لخدمة الوطن والفن، يعانى ويكابد جراء سياسات خاطئة قاصرة ضيقة الأفق، لكنه يخلص فى انتمائه الوطنى الصادق، كاتما ما يعتمل فى أعماقه من حسرة ووجيعة، قانعًا بالغناء العذب الذى يغزو القلوب ويستوطنها:

بلدى أحببتك يا بلدي

حبًا فى الله وللأبد.