صاحب سبع صنايع ونموذج عبقرى للمبدع الشامل الذى يقدم رؤى بالغة العمق والبساطة والعذوبة
كان يحلم فى رباعياته بوطن يتسع للتنافر والخلاف ولا يضيق بالمودة والحب
مرارة أشعاره تتجلى فى اكتشاف القانون الإنسانى الأزلى الأبدى البسيط: مهما تطول الحياة فلا بد أن تنتهى بالموت
فيلسوف «أولاد البلد» فى المصريين الأصلاء الذين يتوارثون الحكمة وينتجون الحضارة ويجمعون فى عبارة واحدة بين المرح والشجن.. يقدسون الموت ويعشقون الحياة.. يدمنون الحب والتسامح ولا يعرفون الكراهية والتعصب
قصيدة «على اسم مصر» الأعمق والأجمل والأنضج.. يستعرض فيها تاريخ وطن ومعالم أزمة ومستقبل حلم يتمسك به ويأبى أن يتبخر ويندثر
لكل إنسان تاريخ ميلاد وآخر للموت، وصلاح جاهين من القلة الاستثنائية التى ولدت وعاشت مرتين، وفقا للأوراق الرسمية فقد ولد فى الخامس والعشرين من ديسمبر سنة 1930، ورحل فى الواحد والعشرين من إبريل سنة 1986، وبالنظر إلى الحقائق التى تتجاوز السجلات والوثائق، فقد ولد فى الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952، وغيبه الموت فى طوفان الهزيمة الذى اجتاح الوطن فى الخامس من يونيه سنة 1967.
كان ميلاده الحقيقى مع الثورة التى جسدت أحلامه فأبدع فى التعبير عنها والتهليل لإنجازاتها، أما موته النفسى فقد اقترن بالكارثة التى زلزلت الأحلام الوردية وصنعت الكوابيس السوداء، إذ أدرك يومها أنه أنفق عمره فى الغناء على الناس وليس الغناء لهم!
سبع صنايع
كان صلاح الدين بهجت أحمد حلمى، الشهير بصلاح جاهين، سليل عائلة عريقة، ولا يكاد أحد من المصريين يجهل اسم جده الذى يحمله أحد أهم شوارع القاهرة: «أحمد حلمى»، أما الأب بهجت فكان رئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة، عظمة الابن صلاح تختلف عن أبيه وجده، فهو جملة من المواهب النادرة فى جسد واحد، شاعر ورسام وصحفى وكاتب سيناريو وممثل، فضلًا عن أنه فيلسوف شعبى على طريقته الفريدة، ذلك أنه فيلسوف «أولاد البلد» فى المصريين الأصلاء، أولئك الذين يتوارثون الحكمة وينتجون الحضارة ويجمعون فى عبارة واحدة بين المرح والشجن، يقدسون الموت، ويعشقون الحياة، يدمنون الحب والتسامح، ولا يعرفون الكراهية والتعصب.
كتب صلاح جاهين أفلامًا تعد من علامات السينما المصرية، جماهيريًا وفنيًا: «خلى بالك من زوزو، أميرة حبى أنا، عودة الابن الضال، شفيقة ومتولى، والمتوحشة»، ومثل أدوارًا صغيرة لا تبرح القلب فى «اللص والكلاب، المعلم طرزان، لا وقت للحب، الأستاذ بدير المحامى». كتب عشرات الأغانى الوطنية التى تهتز معها القلوب، ومنها على سبيل المثال: «والله زمان يا سلاحى، بالأحضان، يا أهلا بالمعارك، الدرس انتهى، لموا الكراريس، ثوار، وراجعين بقوة السلاح»، كما كتب فى الأغانى العاطفية ما يتسم بالمذاق الفريد المختلف، مثل: «بان عليا حبه، أنا هنا يا ابن الحلال، أنت جيت ولا إيه، ليلة انبارح، وما أقدرش على كدة».
قدم صلاح جاهين لمسرح العرائس روائع خالدة، ومن أشهرها: «الليلة الكبيرة»، التى تزداد تألقا كل يوم، و«صحصح لما ينجح» ولا ينسى عشاق الدراما التليفزيونية تخفته التى لا تُمل «هو وهى» عن قصص لسناء البيسى وأداء فذ لسعاد حسنى وأحمد زكى.
سجل حافل بالإنجازات، فهو بحق صاحب سبع صنايع ومسلح بطاقة هائلة تجعل منه أنموذجًا عبقريًا للمبدع الشامل الذى يقدم رؤى بالغة العمق والبساطة والعذوبة.
سحر الرباعيات
ليس مثل قصائد صلاح جاهين فى تعبيرها عن روح الشخصية المصرية، ويتجلى ذلك فى دواوينه التى تحمل الروائع التى يرددها الملايين، ولعل قصيدة «على اسم مصر» هى المطولة الأعمق والأجمل والأنضج ففيها يستعرض تاريخ وطن ومعالم أزمة ومستقبل حلم يتمسك به ويأبى أن يتبخر ويندثر.
الرباعيات هى العلامة التى لا شبيه لها فى تاريخ الشعر المصرى، وليس فى إنتاج صلاح جاهين وحده، ليس لأن الديوان الصغير البديع قد حقق أرقاما قياسية فى التوزيع وتعدد الطبعات، وليس لأنها انتشرت بعد تلحينها وغنائها بواسطة الصوتين البديعين: سيد مكاوى وعلى الحجار، بل تكمن الروعة الحقيقية فى ذلك السحر الذى تتحول فيه كل رباعية إلى نص فنى مشحون بالدلالات والمؤثرات الطازجة.
كل رباعية حالة تستدعى التأمل الطويل، والرباعيات فى مجموعها درس فنى بليغ، يناقش قضايا شائكة تتعلق بالإيمان والموت والحزن والفلسفة والحب والجنس والوعى والحيرة التى لا تنتهى فى مواجهة تناقضات شتى، تحاصر الإنسان فيصارعها وينتصر أو ينهزم، قبل أن ينهض من جديد ليواصل الحياة.
صلاح فى رباعياته فيلسوف مصرى شعبى، يبنى فلسفته على أنقاض الشائع من فلسفات لا يستسيغها البسطاء والعاديون من الناس، كما يبدو ابن البلد الساخر متألقا فى تهكمه وهو يتحدث عن عمر الخيام ونصائحه:
ياللى نصحت الناس بشرب النبيت
مع بنت حلوة.. وعود.. وضحك.. وحديت
مش كنت تنصحهم منين يكسبوا
تمن ده كله؟.. ولا يمكن نسيت
عندما ينفصل الفلاسفة عن الواقع إلى هذه الدرجة فإن مناقشة أفكارهم بالتفصيل تبدو أقرب إلى العبث، تكفى إشارة عابرة، أو سؤال ماكر، لنسف أسس فلسفتهم: «منين يكسبوا تمن ده كله؟»، قد تكون نصيحة الخيام صحيحة ومفيدة، لكن وسائل تنفيذها تبدو مستحيلة فى ظل واقع يعلى من قيمة الثمن والمقابل المادى لكل متعة.
الإيمان ضرورة حتمية لمواجهة الزمن عند صلاح جاهين، الإيمان بماذا؟ هذه مسألة أخرى، فالمهم هو فكرة الإيمان، قد يكون الإيمان بالله، وهو ما يحسمه صلاح ببساطة تتجاوز البحث عن «وجوده» إلى البحث عن «صفاته»:
ياللى بتبحث عن إله تعبده
بحث الغريق عن أى شىء ينجده
الله جميل وعليم ورحمن رحيم
احمل صفاته.. وأنت راح توجده
الإيمان بالله هنا ضرورة تماثل أهمية «القشة» للمهدد بالغرق، ولأنها فلسفة بلا ضفاف، فإن الإيمان لا يحتاج إلى طقوس معقدة، إذا كنت محتاجا إلى الله، فلا تبحث عنه بالمنطق والبراهين فى الكتب والنظريات، بل ابحث عن صفاته واحملها وستجده فى نفسك.
الحزن الجميل
يسود الحزن فى الرباعيات كنفحة أصيلة مستقرة، لكنه حزن إنسانى نبيل، إن حزن صلاح ليس ذاتيًا ضيق الأفق وليد الألم الفردى، لكنه حزن عام ومنتشر يسهل اكتشافه مهما تتعدد حالات الوجد الإنسانى.
بالبساطة وحدها يمكن قهر الإنسان، وبالبساطة العميقة وليدة الحكمة المتراكمة الموروثة يتكيف الإنسان مع ما لا يمكن التكيف معه، إن الموت مفزع ومفجر للحزن الشفاف المتوهج:
ضريح رخام فيه السعيد اندفن
وحفرة فيها شريد من غير كفن
مريت عليهم.. قلت يا للعجب
لاتنين ريحتهم فيها نفس العفن
إذا لم يكن من الموت بد، فلا أقل من تبريره والتعايش معه ببساطة تضمر الحزن، ولا تخلو من السخرية.
البساطة والسخرية وجهان لعملة واحدة يشهرها الإنسان بوجه عام، والإنسان المصرى على وجه الخصوص، لمقاومة الزمن ومجابهة تحدياته. تمتلئ الرباعيات بأسئلة بسيطة مراوغة تقطر منها حكمة الزمن، وتمتلئ كذلك بإجابات بسيطة ناصعة لأسئلة صعبة معقدة.
الوطن الذى يحلم به صلاح، ويحلم به المصريون الذين تعبر عنهم الرباعيات، وطن تسوده التعددية التى هى نتاج الفلسفة البسيطة البريئة من تنطع الفلاسفة، والإيمان بالإنسان، وعمق الحكمة الموروثة. الوطن الذى يحلم به صلاح يتسع للتنافر والخلاف، ولا يضيق بالمودة والحب:
لولا اختلاف الرأى يا محترم
لولا الزلطتين مالوقود انضرم
ولولا فرعين ليف سوا مخاليف
كان بينا حبل الود كيف اتبرم
انتصار الحياة
لا يخفى صلاح جاهين مرارته من فكرة الموت، وهى مرارة لا تقوده إلى الاستسلام، لكنها تزيد من شعوره بحتمية الموت. بكلمة عامية واحدة مشحونة بالدلالات، يعبر صلاح عن جوهر رؤيته للصراع غير المتكافئ بين الموت والحياة. الكلمة هى «الأكادة»، والقصة عن أيوب، المثل الأعلى فى المقاومة الإنسانية والصبر الذى يُضرب به المثل، والمرارة تكمن فى العمق الذى توصل إليه صلاح، ضرورة الموت وحتميته مهما تتعدد الوسائل وتتباين:
أيوب رماه البين بكل العلل
سبع سنين مرضان وعنده شلل
الصبر طيب.. صبر أيوب شفاه
بس الأكادة مات بفعل الملل
الموت بكل الرباعية، وأيوب التراثى الذى يستدعيه صلاح أنموذج فذ لمواجهة شبح الموت المتمثل فى المرض المستعصى على العلاج، مرارة صلاح تتجلى فى اكتشافه للقانون الإنسانى الأزلى الأبدى البسيط: مهما تطول الحياة فلا بد أن تنتهى بالموت. «الأكادة» أنها ستنتهى، وكأن الموت يخرج لنا لسانه متحديا، حتى لو تغلبنا على الأمراض والكوارث التى تعجل بنهايتها، فإنه ينتظر. الإنسان لم يخلق للخلود ولا يتحمله والكون سيضيق بالتراكم البشرى اللا نهائى إذا تحقق، فإن استمرار الحياة رهين بفناء الأحياء!
يمسك صلاح بجوهر القانون الذى يحكمنا فى رباعيته المذهلة:
أنا قلبى كورة.. والفراودة أكم
ياما اتنطح وانشاط.. وياما اتعكم
وأقول له كله ح ينتهى فى المعاد
يقول بساعتك؟ والا ساعة الحكم
الذين يعرفون القليل عن قوانين كرة القدم، يدركون أن الحكم هو الميقاتى الوحيد فى مباريات الكرة، فهو الذى يطلق صافرة البداية والنهاية، ويدير المباراة بلا معقب على أحكامه، ربما يحتج اللاعبون والمشاهدون على كثير من قرارات الحكم، لكنه احتجاج سلبى تعيس لا جدوى منه سوى التنفيس وإظهار الموقف الرافض دون أمل فى تغيير حقيقى. تنطلق الصافرة، من منظور ساعة الحكم، فيخرج لاعبون ويأتى آخرون. لا بد من النهاية، الموت والبداية الجديدة والميلاد، لتستمر فكرة اللعب، فكرة الحياة.