قَبْلَ يَوْمَيْنِ كُنْتُ بِمُفَرَّدي فِي الْمَنْزِلِ وَكُنْتُ مُنْهَمِكًا فِي بَعْضِ أَعْمَالِي، رَنَّ جَرَسُ الهاتف، رَفَعْتُ السَّمَاعَةَ وَبَدَأْتُ الْحَدِيثَ.
- السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.
فَرَدَّ عَلَيَّ صَوْتٌ هَادِئٌ رَزِينٌ:
- وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَكَانَ السُّؤَالُ الْمُنْطِقِيُّ أن أسأله: مَنَ مَعِي؟
فَأَجَابَ مِنَ الْهَاتِفِ: رَمَضَان.
- رَمَضَانُ مِنْ؟
-أَنَا رَمَضَانُ الشَّهْرُ الكَرِيمُ؟
بَدَأَ يُظْهِرُ لي أَنَّهُ اسْمٌ ثَلَاثِيٌّ رَمَضَانُ بِنُ الشَّهْرِ بِنُ الكَرِيمِ!
فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّنِي سَمِعْتُ مِنْ قَبْلٍ الكثير من الأَسْمَاء الغَرِيبَة، وَلَكِنِّي لَمْ أَسْمَعْ هَذِهِ التَّرْتِيبَةَ الْعَجِيبَةَ جِدًّا مِنْ قَبْلٍ.
فَرَدَّ بِصَوْتٍ هَادِئٍ: بَالطَّبْعِ أَعْرِفُ إِنَّكَ تَتَعَجَّبُ مِنْ أَسْمِي لأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُنِي مِنْ قَبْلٍ.
وَلِأَنَّ الصَّوْتَ هَادِئٌ وَيَبْدُو عَلَيْهِ الْوَقَارُ، إِسْتَبَعَدْتُ تَمَامًا فِكْرَةَ الْمُعَاكَسَاتِ.
رَدَدْتُ عَلَيْهِ بِتَعْجُبٍ؟! تأكيدًا مِينَ حَضْرَتَكَ؟
فَأَجَابَ قُلْتُ لَكَ: أَنَا رَمَضَانُ الشَّهْرُ الكَرِيمُ.
فأردتُ أنْ أكسرَ حِدةَ الجُمود الذي في الحديث، فسألتُهُ مُجَاريًا له في حديثه:
- هل أنت ذو صِلة بِرَمَضَانِ الذي نَصُومُهُ ويأتي بعدهُ الْعِيدُ وما إلى ذلك؟
سَمِعْتُ لَهُ صَوْتَ ابْتِسَامَةٍ ثُمَّ أردف قَائلًا: بَالطَّبْعِ أَنَا هُوَ.
ضَحِكْتُ وَقُلْتُ لِنَفْسِي: رُبَّمَا أَحَدٌ من زُمْلَائِي يُدَاعِبُنِي أَوْ رُبَّمَا ذاك ضمن بَرْنَامِجٌ تِلْفِزِيُّونِيٌّ أَوْ إِذَاعِيٌّ مِنْ بَرَامِجِ الْمُقَالَبِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ فَتَعَمَّدْتُ أَنْ أُرَاعِيَ اللَّيَاقَةَ فِي الْحَدِيثِ مَعَهُ وَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَقَارِ.
أَجَبْتُهُ: تَمَّامًا أَنَا عَرَفْتُك أنت رمضان، تَفْضِلُ ما هي طَلَبَاتِكَ؟
رَدَّ فِي عَجَبٍ وَحِدَّةٍ: لَيْسَ بَعْدُ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفْنِي. مَازَالَ يَتْبَقَى ثَلَاثَةٌ أَيَّامٍ إِنْ أَطَالَ اللَّهُ عُمُرَكَ، سَوْفَ تَعْرِفُنِي وكُنتُ ضَيْفَكَ.
اعتَبَرْتُهَا مزحة منه، لَكِنَّهُ على الجانب الآخر فِعْلًا كان يَتْبَقَى من شَهْرِ رَمَضَانَ الْكَرِيمِ ثَلَاثَةٌ أَيَّامٍ.
بَادَرْتُهُ: يَاسِيدِي أَنَا أَعْرِفُكَ جَيِّدًا بَلْ وَأُحِبُّكَ فَأَنَا أَنَاهِزُ الْخَمْسِينَ عَامًا وَفِي كُلِّ عَامٍ تَأْتِينَا شَهْرًا كَامِلًا يَلْفُنَا فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ضَحِكَ ضَحِكَةً طَوِيلَةً وَقَالَ: صَدَّقَنِي إِنَّكَ لَا تَعْرِفُنِي وَأَنَا لَمْ أَزُرْكَ مِنْ قَبْلٍ.
أَجَبْتُهُ:أَوَلَيْسَ أَنْتَ رَمَضَانُ الشَّهْرُ الذي نُصُومَةٍ؟
رَدَّ مُكَمِّلًا عَلَى كَلَامِي: نَعَمْ أَنَا رَمَضَانُ وَالتَّرَاوِيحُ وَإِفْطَارُ الْمَغْرِبِ وَالزينة وما الى كل ذلك، لكِنَّكَ لَا تَعْرِفُنِي.
رَدَدْتُ وقُلتُ: "أَها، لَقَدْ حَيْرَتِنِي. لَوْ سَأَلْتُ طِفْلًا صَغِيرًا فِي الشَّارِع عَنْك، سَيَعْرِفُك، وَلَأَخْبَرَ أَنَّ 'رَمَضَان يَأْتِي كُلَّ عَامٍ مَرَّةً."
رَدَّ السَّيِّد: "مُخْطِئٌ أَنْتَ، أَنَا آتٍ فِي العُمُر كُلهُ مَرَّةً وَاحِدَةً."
لَمْ آخُذْ عَلَى مُحَمَّل العَبْث وَاللَّهَو كَلَامَهُ، خَصُوصًا أَنَّ لِحَدِيثِهِ شَيْئًا مَا يَلَامِسُ أَشْيَاءَ فِي دَاخِلِي تَعْجِزُ الأَبْجَدِيَّةُ أَنْ تُصَوِّغَهَا كَلِمَاتٍ تَسُوقُ تِلْكَ الْمَعَانِي إلَى حَيْزِ الحِسِّ الْمَادِيِّ. هَذَا السَّيِّد وَدَائِمًا حَدِيثَهُ يَجْعَلُنِي أُسْتَشْعِرُ وَقَارًا لَهُ وجَمَالًَا.
قُلْتُ لَهُ: "يَا سَيِّدِي، سَلَّمْتُ لَكَ جَدْلًا أَنَّكَ أَنْتَ الشَّهْرُ الكَرِيمُ."
عَاجَلَنِي بالرَّدِ: "بَلْ بِالْفَعْل، يَقِينًا أَنَا هُوَ."
فعدلتُ خطابي: "سَلِمْتُ لَكَ يَقِينًا أَنَّكَ أَنْتَ شَهْرُ رَمَضَان، فَكَيْفَ تُفَسِّرُ أَنَّكَ تَأْتِي فِي العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَا أَرْصَدُكَ مُنْذُ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا قَدْرَ مَا تَتَحَمَّلُهُ ذَاكَرَتِي؟"
رَدَّ: "العَجِيبُ أَنَّكَ تَنَاقَضَ كَلَامَكَ، أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَامًا تعرِفُنِي، وَتَخْتَلِطُ عَلَيْكَ الأُمُورُ، وَتَقَعُ فِي فَخِّ الْمُتَشَابِهَاتِ. يا بُنَيَّ لَوْ تَطَابَقَتْ الأَشْيَاءُ لَمَا سُمِّيَ الشَّبِيهُ شَبِيهًا."
"يا وَلَدِي، لَوْ نَزَلْتَ إلَى الشَّارِعِ وَصَحَّتْ فِي جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ، وَقُلْتَ: 'يَا أَحْمَدُ'، رُبَّمَا التَّفَتَ إلَيْكَ رُبْع عَدَدِ النَّاسِ، فَسَتَرَى مِنَ الْمُلْتَفِتِينَ إلَيْكَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ وَالأَبْيَضَ وَالأَسْوَدَ وَالسَّمِينَ وَالرَّفِيعَ وَهَكَذَا، فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَتَطَابَقُ مَعَ الآخَرِ؟"
أُهُون عَلَيْكَ الْأَمْرُ، أَنْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَتَنَاوَلُ ثَلَاثَ وَجْبَاتٍ: فُطُورًا وَغَدَاءً وَعَشَاءً. عِنْدَمَا أَسْأَلُكَ مَاذَا كَانَ إِفْطَارُكَ، فَهَلْ سَتُجِيبُ عَنْ مَا تَنَاوَلْتَهُ فِي إِفْطَارِ الْيَوْمِ، أَمْ إِفْطَارِ أَمْسِ، أَمْ قَبْلَ أَمْسِ، أَمْ إِفْطَارِ الْعَامِ الْمَاضِي، أَمْ الْعَامِ الْقَبْلَ الْمَاضِي؟ أَمْ هُوَ تَشَابُهٌ لِلأَسْمَاءِ فَقَطْ، وافطار اليوم مختلف عن إفطار أمس وهكذا؟"
أَسْتَطِرْدُ قَائِلًا: "أَيّ بُنَيُّ، فِي كُلِّ عَامٍ هُنَاكَ شَهْرٌ يُسَمَّى رَمَضَانَ، وَلَكِنَّ رَمَضَانَ العَامَ السَّابِقَ لَيْسَ هُوَ رَمَضَانَ العَامِ قَبْلَ الْمَاضِي.
يَبْدُو أَنَّ الِاتِّصَالَ انْقَطَعَ لِأَمْرٍ مَا؟
نحيتُ الهَاتِفَ جَانِبًا وَاِسْتَطَرَدْتُ أُزَاوِلُ عَمَلِي مَرَّةً أُخْرَى.
وَلَكِن بَعْدَ فَتْرَةٍ، سَمِعْتُ رِنِينَ التِّلِيفُونِ مَرَّةً أُخْرَى:
- السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
- مَن مَعِي؟
إِنَّهُ نَفْسُ الصَّوْتِ وَقَالَ ضَاحِكًا: أَنْتَ مِنْ أَجَبْتَ عَلَى نَفْسِكَ إِنَّكَ تَدْعِي أَنَّكَ تَعْرِفُنِي مِنْذُ ٣٤ عَامًا. صَدَّقْنِي، لَوْ كَانَ هَذَا مُضْبُوطًا، لمَ إحتجت أن تسألني عن هويتي. سؤالك كشف زيف إدعائك أنك تعرفني. سَتَتَعَرَّفُ عَلَيَّ بَعْدَ إنتهاء ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِذَا كَانَ فِي عُمُرِكَ بَقِيَّةٌ، وَلَكِنْ لَنْ تَرَانِي فِي دُنْيَاكَ بَعْدَهَا أَبَدًا.
- يَا بُنَيَّ، لَا أَطِيلُ عَلَيْكَ. أَنَا رَمَضَان، ذَلِكَ الشَّهْرُ الْكَرِيمُ الَّذِي تَسْمَعُ عَنْهُ. سَأَبْقَى مَعَكَ حَتَّى فَجْرَ عِيْدِ الْفِطْرِ. لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا فِي دُنْيَاكَ ثانيةً أَبَدًا.
رُبَّما في مِثل هذه الأيَّام مِن العام المُقبِل يَطلُّ عليكَ شبيه مثلي، لَكِنهُ يُقينًا هو غَيري. لقد أتَفقْنَا سابقًا إنه لَوْ تَطَابَقَتْ الأَشْيَاءُ لَمَا سُمِّيَ الشَّبِيهُ شَبِيهًا".
لَمْ يَكمُل الرَجُل كَلامَهُ، انقَطَعَ الخَطُّ مَرَّةً أُخْرَى. حاوَلْتُ هذه المَرَّةَ أَنْ أُعيدَ من جَانِبِي الاتِّصالَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، لكنني لَمْ أُفْلِحْ.
انتظَرتُ بعض الوقت عَلَّهُ يُعَاوِد الاتِّصال، وَعِندَما يئست أن يفعل ذَهَبتُ إلى فِراشِي مستلقيًا لعلي اجد بعض الراحة لهذا الرأس الذي انهكه التفكير. لم تمض إلا لَحَظَات يسيرة وَإذا بالتّليفون يُعَاودُ رِنّاَتَهُ بِصَوتٍ عالٍ جِدًّا هذه المَرَّة، فَزِعتُ مِن سَرِيرِي وَذَهَبْتُ لِلْمَكْتَبِ. أمسَكتُ التِّليفونَ وَقُلتُ: "السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ. نَعَم، تَفْضَلْ يا سَيِّدَ رَمَضان الشَّهْرُ الكَرِيم؟"
صَوتًا أنثويًا هو من كان يهاتفني على الجانب الآخر: "الو،الو.. أَنتَ مَعايا. لَقَدْ كَانَ صَوْتُ زَوْجَتِي، نَعَم، يا أُمَّ مُحَمَّدٍ. تَفْضَلِي؟"
أَجابَتْني: "إِنَّنِي اعْتَذَر يا زوجي الحبيب، أَخَذْتُ الأَوْلادَ وَنَزَلْتُ إِلَى بيتُ أبيِ. لَمْ أَشَأْ أَوْقَظَكَ، فَلَقَدْ كُنْتَ نائِمًا، وَيَبْدو عَلَيْكَ آثارُ التَّعَبِ. بَدَأْتُ أَسْتَفيقُ بالفعل كُنْتُ نائِمًا. ذَهَبْتُ لأَغْسِلَ وَجْهِي، مُنَدهِشًا مِنَ ذاكَ الَّذِي رَأَيْتُهُ في مَنامِي، وَالَّذِي جعَلَني أُكَرِّرُ في هُدوء. فعلًا، لَقَدْ صَدَقْتُ سيدي، "رَمَضانُ لا يَأْتي في العُمْرِ إِلا مَرَّةً واحِدَةً".