فى المقال السابق توقفت عندما وجد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الرسالة التى كان ينتظرها ردًا على طلب سبقه إلى دلهى وهو موعده مع رئيس الوزراء "جواهر لال نهرو" في مكتبه بمنطقة "راشتراباتي بهافان" مقر الحكم الرسمي آنذاك في عاصمه الهند...
وبالفعل كان فى الموعد
المحدد تمامًا جالسًا على مقعد أمامه ولكن رئيس الوزراء راح ينهى أشغالًا كان مستغرقًا فيها قبل دخوله ولم يشأ أن يتركه في الانتظار خارج مكتبه حتى يفرغ وأشار اليه بانه سوف يكون معه بعد لحظات...
وقد أتاح ذلك للكاتب الكبير فرصة أن يتأمله...
كان رئيس الوزراء في الزي الهندى التقليدي الأبيض شاهق البياض والوردة الحمراء تطل من عروة الصديري كما عرفها العالم... بدأت تقطيع وجهه اكثر انسجامًا مع الصور التي تنشر له وبدا وجهه صبوحًا متّسقًا في ملامحه ومريحًا...
وقال الكاتب الحقيقة أن مناخًا كاملًا من الثقه بالنفس كان يملأ القاعة... ولاحظ الأستاذ "هيكل" انه كان يهمهم لنفسه وهو يفكر... وبدأ بصف ما يفعله...قال تناول قلمًا وبدا له انه شطب في ورقة أمامه ثم كتب سطرًا آخر بدلًا مما شطب ثم رفع سماعه التليفون وأعادها إلى مكانها على الفور لأنه غيّر رأيه فيما يبدو...ثم فتح درج مكتبه ووضع فيه كل الأوراق التي كانت أمامه وكأنه بت بالتأجيل فيما كان مطروحًا عليه...
ووجه رئيس الوزراء "جواهر لال نهرو" الحديث له ولاحظ أن في صوته نبرة تعطي الانطباع بأنها تصدر من أنفه وليس من شفتيه وحدهما، واكتشف للكاتب فيما بعد أن هذه النبرة في صوته تزيد إذا ضايقه شيء أو انفعل اثناء مناقشة...
وقال له: هل هذه هي أول مره تزور فيها الهند...؟
وكان جواب الكاتب الكبير انها بالفعل أول زيارة له...
فسأله رئيس الوزراء الهندى وكيف وجدتها...؟
فقال له انه يحاول إعادة اكتشافها بعينه وليس بعيون الرحالة القدامى والمحدثين...!
فعاد يسأله هل أعدت اكتشافها وماذا اكتشفت...؟ ولاح شبح ابتسامة طرف شفتيه...
فقال الكاتب الكبير وهل يستطيع أحد أن يكتشف الهند في خمسة أيام... يحتاج المرء أربع سنين على الأقل ليفهم...
وقال رئيس الوزراء الهندي له بلهجة بدت له مبطنة بشيء من السخرية وشيء من المرارة:
" لعلك تنجح فيما لم أنجح فيه أنا... لقد قضيت حتى الآن أكثر من خمسين سنة أحاول اكتشاف الهند ولم أستطع... عرفت أشياء عن الهند ولكني لم أكتشف الهند كلها بعد..."
ثم قال" اظن انك بدأت من الطريق الصحيح، ففهم الديانة الهندوكية من مفاتيح معرفة الهند الحديثة... هناك مفاتيح أخرى لا تقل أهمية من الهندوكية... لكن الديانة هي أول المفاتيح كلها..."
وسارع الكاتب يحدث رئيس الوزراء الهندى عن الدكتور "محمد حسين هيكل" باشا السياسي والكاتب والمؤرخ الأشهر والذي كان رئيسًاً لحزب الاحرار الدستوريين وظروف لقائه به...
وعلق رئيس وزراء الهند بأنه من سوء الحظ أنه لم يكن يعرف من أحزاب مصر غير حزب "الوفد" ولا يعرف من زعماء هذا الحزب غير "النحاس" باشا و"مكرم عبيد" باشا... وحكى عن أول لقاء بهما...
"أَكْمَلُ لك تفاصيل لقاء الأستاذ محمد حسنين هيكل برئيس وزراء الهند "جواهر لال نهرو" فى مكتبه والذى تحدث عنه فى كتابه الشيق والممتع
" زيارة جديدة للتاريخ"