مُسلح فى عمله بالموهبة والعلم والوعي.. بعيدًا عن السطحية والنمطية والافتعال
«عباقرة الظل»، حلقات نشرتها «البوابة»، منذ سنوات، للكاتب المبدع مصطفى بيومي، وصدرت فى كتاب بالعنوان نفسه، ويتناول الحديث عن عدد من الممثلين الأقل شهرة عن نجوم الصف الأول، وقدموا أدوارًا مُعقدة ظلت باقية في أذهان الناس، ويُطلق عليهم أعمدة الطبقة الوسطى في السينما المصرية، ويرى «بيومي» أن كثيرًا من هؤلاء العباقرة لعبوا أدوارًا لا تقل أهمية عن أدوار البطولة، حملت مقولات معبأة بالفلسفة الشعبية الخالصة.. تحيةً لروح كل نجم من هؤلاء النجوم، تُعيد «البوابة نيوز» نشر بعض هذه الحلقات.
قلائل في تاريخ فن التمثيل السينمائي المصري من يستحقون لقب «الأستاذ»، ولا بُد أن يكون «الأستاذ» محمد توفيق في طليعة هؤلاء.
ليس في شهرة الأساتذة حسين رياض وزكي رستم ومحمود المليجى ومحمود مرسي، على سبيل المثال، لكن الأستاذية لا تقترن بالنجومية، فهي حصيلة الإبداع الصادق المتوهج الذى يتجاوز فكرة البطولة التجارية، وثيقة الصلة بشباك التذاكر والموقع الذى يحتله الاسم في أفيشات الدعاية.
محمد توفيق، أستاذ يتقن المهنة ويحبها، مُسلحًا في عمله بالموهبة والعلم والوعي، يُعرف جيدًا ما يفعل، ويهرول بعيدًا عن السطحية والنمطية والافتعال والانفعال الزائف. لا شك أنه كان يستمتع بالتمثيل، ويضمر في أعماقه استياء مُبررًا من النجوم وأشباه النجوم الذين لا يتقنون الصنعة، لكنه لا يملك شيئًا في مواجهة طوفان الابتذال والسوقية الرخيصة.
العبقري
في الأدوار المُعقدة المُركبة ذات الأبعاد العميقة المتشابكة، يصل العظيم محمد توفيق إلى القمة التي يعز على غيره الاقتراب منها، ويُلقن الدروس لمن يتوهمون أن التمثيل «همبكة» وشعر مُصفف وتأنق أجوف.
عن رائعة إميل زولا: «تيريز راكان»، يقدم توفيق العبقرى دورًا فريدًا فذًا في «لك يوم يا ظالم» 1951، للمخرج الكبير صلاح أبوسيف. زغلول، موظف صغير، ساذج معتل الجسد والعقل والروح. زيجة فاشلة مع فتاة جميلة تتعذب بالحرمان، ويظهر صديق كذوب خبيث فيفسد الحياة الهشة ويقود العليل المأزوم إلى الموت غرقًا.
الشخصية على هذا النحو ليست بسيطة سطحية، والانحراف في الأداء قائم حال التركيز على المُعطى الشكلي الظاهري، لكن الممثل القدير ينجو من فخ الأداء أحادي الجانب، ويرتفع بزغلول إلى مقام إنساني جدير بالإشفاق والتعاطف. ليس المُستهدف أن تحبه أو تكرهه، وعند قتله غدرًا يقترب الحزن المُبرر من الوقوف على حافة الحب.
بعد أكثر من ربع قرن، 1977، يُعيد «صلاح» تقديم الفيلم باسم «المجرم»، ويئول دور «توفيق» إلى محمد عوض، وعندئذ تُستعاد المقولة التراثية الشائعة: أين الثرى من الثريا؟.
مع صلاح أبوسيف أيضًا، يقدم محمد توفيق دورًا تاريخيًا جديدًا في «الوحش» 1954. قُرني، زوج ضعيف خانع مسلوب الإرادة، يرضى بدور القواد الخصوصى للجبار محمود المليجي، عشيق الزوجة سامية جمال. تُغريه الشرطة بالتعاون معها للإيقاع بالوحش، وتعده بالحماية، لكن الانتقال من الخنوع المزمن إلى التمرد الشجاع ليس ميسورًا.
في المواجهة بين قُرنى والوحش يتبارز العملاقان، المليجى وتوفيق، في مباراة تمثيلية من طراز رفيع. بارتعاش العينين وارتجاف الشفتين وتهدل اليدين، يُعبر قُرنى عن انكساره، ويهاجر سريعًا من خندق الشجاعة المؤقتة التي لا يملك مؤهلاتها، ولا يشك المشاهد لحظة أن أعماق توفيق غير المرئية ترتجف، وليس الجسد وحده.
دور صغير لا يتجاوز عدد مشاهده أصابع اليد الواحدة، لكنه يُزلزل مشاعر المشاهد ويترك فيه أثرًا لا يزول. إنه الصدق الذي يصنع الفارق، والموهبة الأصيلة التي لا تنتجها ماكينات الدعاية الفجة.
شخصية المدمن، كما ينبغى أن تكون، يجسدها محمد توفيق ببراعة في «المعلمة» و«الأخ الكبير» 1958. رؤية حركية ونفسية واعية، تنعكس على أسلوب الأداء المنضبط. انسحاق مبرر بالاحتياج المدمر الذى يتطلب إشباعًا فوريًا، دون تفكير في الثمن المدفوع. المدمن عند الفنان المتمكن، حالة إنسانية مُعقدة، ذلك أنه مريض يرفض الشفاء، ومهزوم مأزوم يجد في الانكسار متعة غامضة يكره أن تغادره. التحالف بين الصوت ولغة الجسد يقود إلى إقناع حتمي، ويفضى بالمشاهد إلى الدعاء للمدمن وليس الدعاء عليه.
حسن، عبيط الحارة في «السوق السوداء» 1945، وابن صبيحة في «حسن ونعيمة»، والتابع المُطيع للدجال المحترف في «المبروك» 1959، ومحمد، خادم اللوكاندة الشعبية المتواضعة في «الطريق» 1964، والأسطى حسن الحلاق في «قنديل أم هاشم» 1968؛ نماذج ثرية لقطاع عريض من الهامشيين المهمشين القابعين في قاع المجتمع المصري.
يُبدع محمد توفيق في التعبير الصادق عن عوالم هؤلاء الضائعين المحاصرين بالفقر والتعاسة وقلة الحيلة، كأنه واحد منهم. الاستقرار في الهامش الخانق الضيق مشترك يوحدهم ويقرب بينهم، والتفرد عند «توفيق» يتمثل في إدراكه الواعى العميق بخصوصية كل واحد منهم وفرديته في السمات والملامح، جراء الموقع الذى يحتله والظروف الموضوعية المحيطة به، ما يستوجب إضفاء بصمة خاصة على الأداء.
قد يكون حسن «عبيطًا» ساذجًا محدود الذكاء وفق المقاييس التقليدية الشائعة، لكنه ينتمي إلى الحارة بفطرة نقية، مُسلحًا بحس إنساني رفيع يقوده إلى الإيثار والتضحية والعمل الإيجابي، وصولًا إلى محطة الموت-الاستشهاد، وهو المصير نفسه الذي ينتهي إليه ابن صبيحة، الرجل البريء الذي يُشبعه ويُسعده تحقق الآخرين.
عمل طفيلي قوامه الخداع والاحتيال في «المبروك»، وظيفة متواضعة في «الطريق»، حرفة شعبية تختلط بالخرافة والطب الشعبي في «قنديل أم هاشم»؛ وجوه متشابهة بلا تماثل، والهوية واحدة.
لا يقنع محمد توفيق بالانتصار الفني الحاسم لإنسانيتهم المُحاصرة بالتحديات والعقبات والعكارات، بل إنه يُحرض المشاهد على مشاركته في الإيمان بإنسانيتهم، ويحثه على تجاوز الأحكام سابقة التجهيز، التى تفضي عادة إلى التعالي واللامبالاة.
لا أحد من هؤلاء يحتل الصدارة في الأفلام المُشار إليها، ولا اكتمال للبناء الفني بمعزل عنهم في الوقت نفسه. الملح سلعة زهيدة الثمن، ولا مذاق للطعام إلا به. هذا ما يرسخه أداء الأستاذ القدير، كأنه يهمس برقة وصلابة: المجد لملح الأرض.
شخصية حافظ، والد فؤادة في «شيء من الخوف» 1969، بمثابة الدور الأعظم للفنان المُتمكن خلال مشواره الطويل مع السينما. في العمل الناضج الشجاع مُتقن البناء، عبر لغة سينمائية لا يصعب وصول رؤيتها السياسية للعاديين من الناس، بصحبة كوكبة من الأفذاذ، يتوهج محمد توفيق فيوشك المشاهد أن يرى ويسمع تقلصات أمعائه من فرط البراعة في تجسيد الارتباك والخوف عندما يواجه الطاغية الشرس عتريس، محمود مرسي، ولا يملك إزاءه إلا الرضوخ المذل المهين.
المشاهد التي يظهر فيها «توفيق» جديرة بأن تُدرس في معاهد وأكاديميات التمثيل، فالأمر عنده ليس كلمات حوار تُقال، أو محاولة للاقتراب من انفعال زائف وتقمص سطحي هش مصنوع، بل هي المعايشة التي ينفصل بها عن العالم ومن فيه. إنه «حافظ» كما ينبغي أن يكون، الأب والخوف والكذب الاضطراري والحسرة المدمرة بعد فوات الأوان.
التمثيل عنده علم وفن وموهبة، وبالنظر إلى تاريخه يُمكن إدراك السر في تفرده واختلافه. في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، يسافر «توفيق في بعثة لدراسة فن التمثيل في المملكة المتحدة، وهناك يتتلمذ على يد الفنان الأسطورى لورانس أوليفييه. يعمل مخرجًا بالقسم العربى في هيئة الإذاعة البريطانية، ويعود إلى مصر ليشارك عبر عقود متتالية في مئات الأفلام والمسلسلات، فضلًا عن عمله الأكاديمي في معاهد التمثيل بمصر وبعض البلدان العربية.
الأستاذ الاستثنائي خارق الموهبة رفيع الثقافة، المؤهل برؤى واعية عن الحياة والفن معًا، يعشق التمثيل ويرى فيه الزاد الذي لا غنى عنه، فكيف لمثله أن يعتزل ويتقاعد؟.
العظيم الجاد صاحب الرسالة، المولود سنة 1908، يعبر عامه التسعين، ويقترب من الخامسة والتسعين، محتفظًا بحيويته الفنية والروحية، كأنه شاب في العشرين. ما أروعه وأعمقه في «سوبر ماركت» 1990، و«عيون الصقر» و«أرض الأحلام» 1992، و«عفاريت الأسفلت» 1996، وصولًا إلى «بدر» 2003، قبل شهور من الإغماضة الأخيرة لعينيه المُعبرتين.
يُذكرني محمد توفيق دائمًا بالمدرس الكُفء المُتفاني في عمله، تتخرج على يديه أجيال من الأطباء والمهندسين والقضاة والضباط ورجال الأعمال، ممن يتفوقون عليه ماديًا واجتماعيًا. يبقى الأستاذ القديم صاحب الفضل مدرسًا مغمورًا يتقاضى راتبًا هزيلًا، ويسكن شقة متواضعة، ويركب الأتوبيس والمترو، ولا تتبدل ملابسه وهيئته النظيفة الفقيرة المتواضعة. لا شيء يعيب أو يُسيء ويُشين، ذلك أن السؤال الجوهري الذي ينبغى طرحه: ألا يشعر المدرس بالرضا والسعادة لأنه يؤدي الواجب كاملًا بلا تقصير؟!. هذه هي المسألة.