الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

عظة الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في سبت النور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قال البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في سبت النور 30 مارس  2024 في عظته، إخواني السادة المطارنة الأجلّاء،  قدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والإقليميّن والإقليميّات المحترمين،  الكهنة والرهبان والراهبات، والإخوة والأخوات الأحبّاء، "أتطلبن يسوع الناصريّ الذي صُلب؟ لقد قام" (مر16: 6)
يسعدنا أن نلتقي ككلّ سنة، صباح سبت النور، بمبادرة من قدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والإقليميّن والإقليميّات، للصلاة معًا وتبادل التهاني بعيد الفصح المجيد، بمشاركة السادة مطارنة الكرسيّ البطريركيّ وسواهم. وأوجّه الشكر لحضرة الأمّ نزهة الخوري التي تكلّمت ياسمكم وعبّرت عن تهانيكم وتمنياتكم، ونحن بدورنا نبادلكم إيّاها. ونقدّمها للرهبانيّات والأبرشيّات المتواجدة في النطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار.
عندما إنقضى السبت، أتت في الأحد باكرًا مريم المجدليّة، ومريم أمّ يعقوب، وصالوما، إلى القبر ليحنّطن جسد يسوع. فرأين الحجر قد دُحرج. فدخلن القبر، فرأين شابًا متوشّحًا حلّةً بيضاء فانذهلن. أمّا هو، فقال لهنّ: "لا تخفن. أتطلبن يسوع الناصريّ الذي صلب؟ لقد قام، وليس هو هنا. إذهبن وأعلمن تلاميذه أنّه يسبقهم إلى الجليل وهناك ترونه" (مر 16: 6-7). حدثان تاريخيّان مترابطان ومتكاملان: موت يسوع وقيامته. عنهما كتب بولس الرسول: "مات فدى عن خطايانا، وقام لتبريرنا" (روم 4: 25). ما يعني أنّ بالمسيح كلّ شيء صار جديدًا.
ايضا شرح قداسة البابا فرنسيس معاني "الذهاب إلى الجليل" بعد قيامة الربّ من الموت.
أ- الذهاب إلى الجليل يعني البدء من جديد. ففي الجليل كان أوّل لقاء بين يسوع والتلاميذ. هناك بحث عنهم ودعاهم لإتّباعه، فتركوا الشباك وتبعوه. هناك كان مكان حبّهم الأوّل. هناك سمعوه وشاهدوا آياته، ومع ذلك لم يتمكّنوا من فهمه تمامًا. بعد القيامة يعود بهم إلى الجليل لكي يبدأوا من جديد، ونحن، بقوّة النعمة المعطاة لنا من القائم من الموت نستطيع أن نبدأ من جديد. هذا هو نداء الفصح: يمكن دائمًا البدء من جديد.
ب- الذهاب إلى الجليل يعني إجتياز طرقات جديدة، والتحرّك في اتجاهات تعاكس القبر الفارغ. وهذه دعوة لعدم البقاء في إيمان الطفولة واستذكار عاداتها وماضيها. جديدنا الخروج من إيمان الذكريات، وكأنّ يسوع شخصيّة من الماضي، وصديق الفتوّة. لا، بل هو حيّ هنا والآن. يسير معك في طريقك بحلوها ومرّها، لكي تجتازها بفرح وانشراح وعزاء.
ج- الذهاب إلى الجليل يعني أن نتعلّم أنّ الإيمان يقتضي، لكي يكون حيًّا، معاودة السير من نقطة الإنطلاق، ومن إندهاش اللقاء الأوّل، وانتظار مفاجئات المسيح المذهلة في حياتنا اليوميّة.
د- الذهاب إلى الجليل يعني الذهاب إلى الأماكن البعيدة. هناك يسوع بدأ رسالته. ليست "البعيدة" بالمسافة فقط، بل بشعبها المتنوّع والصعب. المسيح القائم من الموت يسبقنا إليها، وهناك يعضدنا لنتخطّى الحواجز، ونزيل الأحكام المسبقة، ونتقرّب ممّن هم بقربنا كلّ يوم، ونكتشف نعمة العلاقات اليوميّة المتجدّدة. معه الحياة تتغيّر بكلّ ما فيها من عنف وسقطات وألم وموت. فالمسيح القائم من الموت حيّ ويقود وحده مجرى التاريخ. إنّه سيّده وحده ولا أحد سواه من أصحاب المال والسلاح والسلطة والنفوذ. فهؤلاء كلّهم يزولون كرغوة صابون. وهم مدعوّون إلى التحرّر من سيّء مسلكهم وطرق تفكيرهم، ومن تحجّر مواقفهم وأفكارهم، من استعبادهم لفسادهم ومصالحهم.
وهذه هي ديناميّة الإحتفال بعيد الفصح كعبورٍ من قديم إلى جديد. لا يقف عيد القيامة عند حدود التذكار، بل يتعدّاه إلى قيامتنا نحن، وقيامة كلّ إنسان من عتيق إلى جديد، وعلى الأخصّ كلّ صاحب مسؤوليّة. نحن لا نستطيع أن نغمض أعيننا عن مآسي شعبنا، ولا أن نصمّ آذاننا عن أنين وجعه، ولا أن نجعل قلوبنا من حجر لئلّا نشعر معه. من واجبنا أن نعطيهم صوتًا من خلال صوتنا، في عديد من القضايا:
أ- فها المجلس النيابيّ بشخص رئيسه وأعضائه يحرم عمدًا ومن دون مبرّرٍ قانونيّ، دولة لبنان من رئيس، مخالفًا الدستور في مقدّمته التي تعلن أنّ "لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة" (ج)، وفي طريقة إنتخابه بالمادّة 49، وفي واجب انتخابه قبل نهاية عهد الرئيس الحاكم بالمادّتين 73 و74، وفي فقدان المجلس صلاحيّته الإشتراعيّة ليكون فقط هيئة ناخبة بالمادة 75. فلا يوجد بكلّ أسف أي سلطة تعيد المجلس النيابيّ إلى الإنتظام وفقًا للدستور. وبالنتيجة مؤسّسات الدولة متفكّكة والشعب يعاني ويفقد الثقة بجميع حكّامه. ونسأل: أين الميثاق، وأين العنصر المسيحيّ الأساسيّ في تكوين الميثاق الوطنيّ؟
ب- وها القطاع التربويّ الذي هو كنز لبنان الحقيقيّ، ما زال يعاند الأزمة الإقتصادية التي هزّت كيانه وأفلست مؤسساته. وإذا بها تضع إدارات المدارس أمام تحدّيين: الأول يكمن في تحسين ظروف العيش للأساتذة لكي يندفعوا في رسالتهم التربويّة ويقوموا بواجبهم المهنيّ تجاه التلامذة، والتحدي الثاني يتمثّل في عدم قدرة جزء كبير من الأهل على دفع ما يتوجّب عليهم وبخاصة موظفيّ القطاع العام والطبقة الفقيرة من المجتمع اللبنانيّ. فضلًا عما يتسبّب به عدم ضمان ثبات سعر صرف الدولار من قلق وخوف على المصير وما خلّفته الموازنة المقرّرة مؤخرًا في المجلس النيابي من ارتفاع في الضرائب والرسوم الماليّة، زادت من أعباء المصاريف التشغيليّة للمدارس. كما أنّه بسبب الأزمة الماليّة، شهدنا ونشهد كلّ يوم هجرةً مقلقة للأساتذة من ذوي الكفاءة والخبرة، الى الخارج أو الى مهن أخرى لتأمين دخلٍ أفضل لهم ولعائلاتهم. وهذا أمر خطير ينعكس سلبًا على جودة التعليم في مدارسنا. هذا ما يوجب على الدولة الإسراع، وقبل فوات الأوان، بإقرار تشريعات جديدة تؤمّن الإستقرار للمعلّم وتضمن له حقّه في تقاعد كريم.
ج- وتضاف في هذا القطاع التربويّ مسألة المدارس المجّانيّة التي علّمت مئات الآلاف في لبنان وقد أصبحوا من أهمّ رجال ونساء وطننا. هذه المدارس ثبّتت الناس في قراهم، وساهمت في توظيف آلاف العائلات. إنّها تعاني من ضائقة ماليّة غير مسبوقة منذ تاريخ إنشائها في خمسينيّات القرن الماضي مع التذكير بأنّ الدولة اللبنانيّة هي التي أرادت الشراكة مع القطاع الخاص لتأمين التعليم لمحتاجيه. فعلى المسؤولين إعطاء الأولويّة لمعالجة أزمة هذه المدارس من خلال:
اوّلًا: صرف مساهمات السنوات المنصرمة بأسرع وقت.
ثانيًا: تعديل المادة 78 من القانون رقم 144 تاريخ 31-7-2019 المتعلّقة بتحديد قيمة المساهمة عن كلّ تلميذ بما يتوافق مع ظرف الوضع الإقتصاديّ الراهن الناتج عن سعر صرف الدولار حيث لم يعد مقبولًا أن تكون المساهمة 12 دولارًا في السنة وما دون عن كلّ تلميذ.
ثالثًا: المحافظة على إجازات مدارسنا المجّانيّة وتأمين الدعم اللازم لها لمنع تشريد آلاف العائلات من ذوي الدخل المحدود وإبقاء شريحة كبيرة من المعلّمين والعمّال في وظائفهم التي هم بأمسّ الحاجة إليها لتأمين العيش لهم ولأسرهم.
د- وتأتي أزمة إقفال الدوائر العقارية في جبل لبنان لفترة طويلة، ونتساءل عن الفائدة والغاية من إستمرار إقفال بعضها حتى اليوم؟ ولماذا تمعن الدولة في قهر الموظّفين لديها ولا تتعامل بوضوح وجرأة وتجرّد مع قضاياهم. نحن نستقبل منهم المئات اسبوعيًّا وكان آخرهم موظفو مصلحة تسجيل السيارات والآليات، والجمارك، والدوائر العقارية وغيرهم. إنّنا ندعم قضاياهم المحقّة ونطالب المعنيّين بإنصافهم والنظر بعين الرحمة الى أوضاعهم المتردّية وخاصة في ظلّ الازمة الاقتصادية والمالية الحادّة.
ه- وثمّة مشكلة تخلّف الدولة عن دفع مستحقّاتها للمستشفيات، وهي مترتّبة على كلّ من وزارة الصحّة والضمان الإجتماعيّ ووزارة الدفاع وتعاونيّة الموظّفين ووزارة الشؤون الإجتماعيّة. فنعطي على سبيل المثال مجموع هذه المستحقّات لمستشفيات راهبات الصليب الخمس، إذ يبلغ 127،318،000،000 ل. ل. ولم اذكر مستحقات المستشفيات الأخرى، كمستشفيات راهبات القلبين الأقدسين، الانطونيات، الغائلة المقدسة المارونيات، القديسة تريزيا الطفل يسوع، الرهبانية اللبنانية وسواها، فإن ذكرناها لوجدنا ما يدمي القلب في كيف ان الدولة لا يعنيها كل هذا. ولا نذكر ايضًا مستحقّات المدارس المجّانيّة، فحساباتها مقدّمة لوزارة الشؤون الإجتماعيّة.
و- وها أزمة مؤسّسة الضمان الإجتماعيّ. ففي السنوات الثلاث الماضية نرى توقّفًا شبه تامّ لخدمات الضمان الإجتماعيّ في الطبابة والإستشفاء في ظلّ إنهيار العملة. نرى أيضًا مشكلة تأخّر الضمان الإجتماعيّ في دفع مستحقّات المضمونين، في مناطق معيّنة دون أخرى، والتأخير في الدفع غير مقبول ويصل إلى 3-4 سنوات.
اليوم بعد إقرار الموازنة نرى عودة للمطالبة بدفع إشتراكات الضمان على أجور الموظّفين والمساعدات الإجتماعيّة لهم، وكأنّ شيئًا لم يكن. فهذا يزيد الوضع سوءًا، إذ أنّ التغطية شبه معدومة بالكامل، وعدد الموظّفين العاملين في الضمان غير كافٍ في مناطق معيّنة دون أخرى.
ز- حمل إلينا وفد من معاقي الجيش اللبنانيّ في محافظة عكّار وهم جزء من المصابين في لبنان. وقالوا: لقد خدمنا في المؤسّسة العسكريّة وقدّمنا حياتنا من أجل الوطن. خرجنا شهداء أحياء، والمؤسّسة العسكريّة لم تتركنا أبدًا. أعطتنا حقوقنا على أكمل وجه، واستطعنا أن نعيش بكرامتنا ونؤمّن ما يكفي لعائلاتنا.
ولكن بعد غرق لبنان بالأزمة الإقتصاديّة، وإصابة أغلبيّة المجتمع اللبنانيّ، أصابتنا نحن أيضًا، حيث أن دخلنا ورواتبنا محدودة وبالليرة اللبنانيّة. حُجزت تعويضاتنا في المصارف، وفقدت رواتبنا قيمتها. الأغلبيّة منّا لا يستطيع العمل لأنّ إصابته تمنعه من ذلك.
فذكروا وشكروا المؤسّسات التي ساعدتهم ببعض المواد الغذائيّة والحاجات الخاصّة. وطلبوا منّا أن نضمّ صوتنا إلى صوتهم لمساعدتهم من الخيّرين.
ح- وجاءت الحرب على الجنوب اللبنانيّ لتزيد من مأساة الجنوبيّين خاصّة، واللبنانيّين عامّة، الإقتصاديّة والتجاريّة والزراعيّة والماليّة والتربويّة. يعلّمنا التقليد أن أرض الجنوب مصانة من الله. ذلك أنّنا نقرأ في كتاب تثنية الإشترع "أنّ موسى طلب من الله السماح له بالعبور ليرى هذا الجبل الجميل لبنان. فغضب الربّ عليه وقال له: كفاك" (تثنية 3: 25-26).
هذا الجبل، هذا الجنوب هو اليوم قلب لبنان، لأنّه في أقصى المعاناة وأقساها، فنحيي الجنوبيّين الصامدين في بلداتهم وقراهم تحت دويّ القصف، نحيّي كلّ الذين فقدوا أحبّاء لهم، والذين دُمّرت بيوتهم، والذين تشرّدوا لاجئين إلى مناطق أخرى.
يجب ألّا يتحوّل جنوبنا من ارضٍ وشعب الى ورقةٍ يستبيحها البعض على مذبح قضايا الآخرين وفي قواميس حروب الآخرين. فجنوب لبنان بل كلّ أرض لبنان هي لكلّ اللبنانيّين الذين يقرّرون سويًا ومعًا مستقبل وطنهم وسلامه وأمنه ومتى يحارب، ولأجل من يحارب. فندعو اللبنانيّين الى كلمة سواء تعلن وقف الحرب فورًا ومن دون إبطاء، والالتزام بالقرارات الدولية ذات الصلة، لا سيما القرار 1701، وتحييد الجنوب عن آلة القتل الاسرائيلية وإعلاء مفاهيم السلام والقيامة على سواها من المفاهيم المغلوطة.
ط- من تأثيرات واقع الحرب واللاحرب مشكلة القطاع السياحيّ الذي يتأثّر جدًّا، فيما في العام الماضي 2023 بلغ الدخل القوميّ 30% أي ستّة مليارات دولار تبعًا للأرقام الرسميّة. هذا القطاع يشكّل رافعة أساسيّة للإقتصاد الوطنيّ. فهو يوظّف 150،000 لبنانيّ بشكل دائم وما يقارب 25،000 موظّف موسميّ لكنّه مهدّد بمصير أسود إذا ما استمرّت الأوضاع على ما هي عليه. إنّ القطاعات الفندقيّة والمطعميّة والسياحيّة البحريّة والشقق المفروشة وتأجير السيارات ومكاتب السفر والسياحة والأدلّاء السياحيّين يعانون الأمرّين.
ي- ومن المشاكل الأساسيّة ذات المخاطر النزوح السوريّ الذي يتكاثر يومًا بعد يوم بشكل مخيف، فكيف يمكن أن تكون أرض واحدة لشعبين. فأرض لبنان هي للبنانيّين، وأرض سوريا للسوريّين. ويكلّمنا المجتمع الأوروبيّ بالدمج، فيما هو يقفل حدوده بوجههم. أيّ عنصر إيجابيّ للدمج؟ لا الروح، ولا الثقافة ولا التاريخ، ولا الحضارة، ولا العادات، ولا السياسة، ولا التربية، ولا الحاجة. نحن نقول لإخواننا السوريّين: لا تستهويكم أرض لبنان، بهوائها وجمالها وطبيعتها وإمكانيّات العمل فيه، فتضحّوا بوطنكم سوريا بتاريخها، وتقاليدها وحضارتها. فلا تتركوها للعابثين بها.
واخيرا، منذ توقيع إتفاق القاهرة سنة 1969، وسنوات الحرب اللبنانيّة، ونشأة الميليشيات، وعدم تطبيق إتفاق الطائف (1989) نصًّا وروحًا مع فرض إستثناءات لأغراض سياسيّة استراتيجيّة، بدأ لبنان يفقد جوهر هويّته التي جعلته صاحب رسالة في العالم العربيّ. لقد فقد حياده الإيجابيّ الناشط، ودخل رغمًا عنه في صراعات ومحاور وحروب إقليميّة ودوليّة لم تكن لصالحه وصالح أبنائه.
هذا الحياد ليس مستحيلًا بل هو ركيزة قيام لبنان الجامع والمتّحد بعيدًا عن محاولة بعضنا الاحتكار او آخر الاستئثار بالسلطة، فالاستئثار بالدولة على حساب بعضنا البعض.
نريد لبلدنا الحياد الإيجابيّ الناشط أو التحييد الفاعل وهو من جوهر هويّته وليس اختراعًا بل تجربة عشناها في القرن التاسع عشر فكان لنا الاستقرار والإعمار والازدهار. فلا بدّ من العودة إليه لإستعادة صحّته ودوره ورسالته.
في ختام هذه الرسالة، نعلن إيماننا بالمسيح القائم من الموت، سيّدًا على العالم والتاريخ، جاعلًا إيّانا قياميّين وجماعة الرجاء والتجدّد والبدء دائمًا من جديد.