الكتبة والمادحون وشيوخ الطوائف والبناءون والنحاسون، وغيرهم الكثير من المهن التي اشتهرت في مصر خلال العصرين العثماني والفاطمي والذي سجلت الجدران والمساجد إبداعاتهم التي ظلت راسخة ومنقوشة عبر مئات السنين، وتأخذكم "البوابة" في رحلة طوال شهر رمضان المبارك وحديث حول تلك المهن وشيوخها وأسطواتها التي اشتهرت في مصر والعالم العربي، والتي لا يزال الكثير منها موجودا حتى عصرنا الحالي ومنها من اندثرت وأصبحت تراثا تشهد به جدران المساجد والقصور.
فعلى مدار الشهر الكريم نقدم لكم حرفة من الحرف التي اشتهرت في تلك الفترة واقفين أمام إبداعات فنانيها وقوانينها التي كانت تتوارث جيل بعد جيل، وحكايات المعلم والصبي والأسطى الذي كان يعتبر رب المهنة.
ومن المهن والحرف التراثية والتي باتت في طي النسيان إلا في بعض القري البعيدة عن العاصمة والتي حلت محلها السجاد والموكيت المصنوع بالماكينات، هي حرفة أو مهنة صناعة الحصير، والتي كانت تصنع من ألياف النخيل والتي كان يخرج منها أحسن أنواع الحصر.
فكانت صناعة الحصر من الصناعات التي عرفتها مصر منذ الحضارة المصرية القديمة، وكانت تستعمل في تغطية أرض المنزل، وكانت من المهن والحرف الرائجة والشائعة في مصر المحروسة، فكان لا يمكن الاستغناء عنها لاسيما في المنازل المبلطة أو ذات الأرضية الرخامية، أو حتى الأرضية الترابية.
وكانت القاهرة تشهد كميات ضخمة من الخصر لتلبية جميع احتياجات، وبلغت أعداد طائفة الحصرية بالقاهرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر نحو 345 حصري، وهو عدد كبير بالمقارنة مع أعداد الحرف الأخرى.
فكان الطلب على الحصير واقتناؤه يدل على أهمية تلك الحرفة لسكان القاهرة، وكانت الحصر تصنع من أعشاب السمار، وأجود السمار ما يؤخذ من الجهات القريبة من بحيرات النطرون، وقبل استخدام السمار، كان يجفف في الشمس لمدة شهر أو شهرين، ثم ينضجونه لمدة عشرين يومًا، وبعد ذلك يصبح أملس مستديرًا مرنًا، ويصبغ بالألوان الأسود والأصفر والأحمر، ويستخدم أيضًا وهو بعد مبلل لصناعة الحصر، وغالبًا ما يقوم الصناع برسم أشكال أو رسومات على الحصر، وعادة ما تكون مريحة جدًا للعين، ويسمى هذا النوع من الحصر «حصر سمر»، ولم يقتصر صنع الحصر على مادة السمار، بل كانت هناك أنواع أخرى من الحصر أكثر شيوعًا، فكانت تصنع من سعف النخيل والبوص.
وإلى جانب الحصر كانت هناك صناعة السلال التي كانت تصنع من سعف النخيل وكانت السلال تستخدم فى حفظ اللوازم المنزلية، وكان الحصريون يقومون أيضًا بصناعة القفف والمكانس والمذبات، وذلك من أجل تنمية مصدر رزقهم.
وواجهت طائفة أو حرفة الحصرية تحديات كبيرة ولعل من أكبرها هي التطور المجتمعي وظهور بدائل أخرى للحصير، كما أن استعمال البلاط البلدى لتبليط الغرف عمل على انقراض صناعة الحصر، علي الرغم من أن صناعة الحصر والسلال كانت من الصناعات التي قامت بدورها علي الرغم من بساطتها في تلبية احتياجات المجتمع القاهري في تلك الفترة.
وأكبر دليل على أن الحصير كان جزءا أصيلا من مكونات البيوت المصرية، ما تركه الأجداد من إرث شفاهي يعبر عن حكمة الشعب والمجتمع وذكر الحصير في الكثير من الأمثال الشعبية مثل المثل الشعبي القائل " طول ما أنا قاعدة على الحصيرة لا هتشوف قصيرة ولا طويلة" وهو من أحد الأمثال الشعبية التي كانت تقوله الزوجة لزوجها إذا شعرت بأنه قد ينظر إلى امرأة غيرها.