في العام الواحد بعد الستين، أجتاز الحقيقة مرتين، مرة حينما يمرض القلب وأخرى عندما تبدأ الذكريات تتوارى خجلًا من النسيان، يتسرسب العمر الجميل الحنون ويفر ويفرفر في رفة قانون، ينسابُ الحنين إلى الماضي عندما يفاجئني كل يوم رحيل الأحبة والوجوه التي رافقتني رحلتي الطويلة.. أعمل التفكير طويلًا في مقولة إلياس نخلة بطل رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" للراحل عبد الرحمن منيف: "الحياة.. مجرد الحياة يا صاحبي بطولة".. وفجأة أهتف مرددًا أبيات الرائع يوسف الصائغ: المحبة دين فيا سيدي اعطنا ندمًا بقدر محبتنا.. خذ قلم الفحم وارسم لنا شاربين، زور رجولتنا.. كنت صبيًا لم أتجاوز الرابعة عشر من عمري عندما خرجت في تظاهرات الخبز عام ١٩٧٧، كان أبي رحمة الله عليه، عضوًا في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، وكنت أحذو حذوه.. لم أكن أعرف حينها لماذا أتظاهر لكنني كنت أقلده. وبعد أعوام قدتُ أول مظاهرة ضد جماعات العنف الديني في كلية التجارة ببني سويف، وكان يقود التظاهرة المقابلة أحمد يوسف زعيم جماعة الجهاد آنذاك في الجامعة.. احتميت وقتها برسومات العبقري ناجي العلي وشخصيته الفريدة حنظلة.
وأمام اللوحات الموحية وقفتُ أشرح للطلاب ما حدث في اجتياح بيروت عام ١٩٨٢.
كانت تلك هي المواجهة الأولى مع جماعات العنف الديني في مصر تلتها مواجهات أخرى أكثر عنفًا صنعت مني مقاتلًا لا يلين ضد تلك الجماعات وما تحمل من أفكار، ولم أزل.
في كل يوم، كنتُ أفقدُ أحد الرفاق القدامى، كنت أستحضره وأتحدث معه: سلم على بيتنا في الأعالي، سلم على أهلنا هناك، وعم سلامًا يا رفيق..
لم أعد أحتمل وجع الفراق.. تمنيت كثيرًا لو أنني أنا الذي أفارق في لحظة عفوية فأفقد الأحساس بالفقد.
كانت تلك إحدى أمنياتي عندما وصلت سن الستين، ولم تزل.. وها أنا ذا أخطو عامًا آخر حمل من الوجع أكثر مما حمل من الأمل.. وما زلت أحيا.. شكرًا للمصادفة السعيدة..
آراء حرة
عبد الرحيم على يكتب: في العام الواحد بعد الستين
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق