الكتبة والمادحون وشيوخ الطوائف والبناءون والنحاسون، وغيرهم الكثير من المهن التي اشتهرت في مصر خلال العصرين العثماني والفاطمي والذي سجلت الجدران والمساجد إبداعاتهم التي ظلت راسخة ومنقوشة عبر مئات السنين، وتأخذكم «البوابة» في رحلة طوال شهر رمضان المبارك وحديث حول تلك المهن وشيوخها وأسطواتها التي اشتهرت في مصر والعالم العربي، والتي لايزال الكثير منها موجودا حتى عصرنا الحالي ومنها من اندثرت وأصبحت تراثا تشهد به جدران المساجد والقصور.
وعلى مدار الشهر الكريم، نُقدم لكم حرفة من الحرف التي اشتهرت في تلك الفترة واقفين أمام إبداعات فنانيها وقوانينها التي كانت تتوارث جيلا بعد جيل، وحكايات المعلم والصبي والأسطى الذي كان يعتبر رب المهنة.
قالوا في الأمثال «يا شبشب الهنا ياريت كنت أنا»، وقالوا كمان: «زى القبقاب لازم يترمى بره الباب»، وكمان قالوا: «اتلم الشبشب على القبقاب وبقوا أعز أصحاب»، و«سبحان العاطي الوهاب بعد الشبشب والقبقاب» وكما كان الشبشب والقبقاب بطلين في الأمثال الشعبية، كان للصرماتي والسروجي أهمية كبرى في المجتمع المصري، فكان لهم طائفة وقوانين تقنن عملهم، بل كان لهم حي بداخل أحياء القاهرة، وهو حي البرادعية، وكان يضم عددا كبيرا من صناع الأحذية والصرماتية والسروجية والذين كانوا يصنعون سروج الخيل وبرادع البغال والحمير.
فكانت صناعة السروج والأدوات الجلدية من الصناعات الرائجة في تلك الفترة، فكان الصرماتية يصنعون كل ما يلزم البلاد من الأحذية مثل البلغ والأخفاف والمراكيب، في أواخر القرن التاسع عشر، وقد ذكرت المصادر التاريخية، أن الأسطى أحمد الصيرفي، كان شيخًا لطائفة السروجية، ولم تقتصر المهنة على المصريين بل ذكرت المراجع التاريخية أن هناك بعض الشوام الذين مارسوا حرفة الصرماتية وحرفة صناعة السروج، ومنهم الأسطى مصطفى الشامي، كما عمل بعض الأرمن أيضًا قد مارسوا المهنة، أيضًا وقد كانت حرفة «المركوبجية» من أشهر الحرف التي اشتغل بها الأرمن في مصر، ومن أشهرهم الأسطى هاجوب الاستانبولي، واشتهرت أحذيته بالإتقان والمتانة والجودة.
كما كانت الأحذية المصرية أو الشرقية في تلك الفترة تُضاهي الأحذية الأوروبية، نظرًا لذوقها الرفيع ومتانتها، ووصل عدد السروجية في سبعينات القرن التاسع عشر إلى 512 سروجي، بينما وصل عدد الصرماتية إلى 1176 صرماتي، وكانوا يختصون بصناعة البلغ والأخفاف والمراكب، أما عدد الجزماتية إلى 283 جزماتي، وكانوا يختصون بصناعة الأحذية، كما كانت هناك طائفة أخرى تسمى «الأساكفة» أو «الإسكافي» وهو المختص بإصلاح الأحذية.
ومع تطور حركة النقل والمواصلات باتت مهنة السروجية في مهب الريح، حيث حل الترماي محل الحمير والبغال وأصبحت صناعة السروج وتوابعها في حالة كساد، ولم يقتصر الكساد على طائفة السروجية فحسب وإنما طالت أيضًا صانعي الأحذية الحمراء التي كان يرتديها المشايخ، ذلك بعد أن غمرت الأحذية الأوروبية السوق المصرية والتي كانت تجمع بين رخص الثمن والجودة.
ويؤكد على ذلك ما ذكره كرومر: «من الصعب أن تجد اسكافي وطنيا يحسن إصلاح الحذاء الأوروبي مع أن الأحذية الأوروبية أصبحت عمومية الاستعمال وإصلاح الأحذية وعملها في يد اليونان والأرمن»، ومن هذا يتضح لنا أن السوق المصرية قد فتح المجال لصناعة الأحذية الأوروبية، مما أثر بشكل كبير على الصناعات المحلية.