في هذه الأيام، نسترجع ذكرى تحرير كامل التراب المصري في 19 مارس. كان عام 1989 شاهدًا على رفع علم مصر فوق أرض طابا، هذه القطعة من الوطن التي استمرت في قبضة الاحتلال الإسرائيلي على مدى 22 عامًا.. سنوات شهدت معارك شرسة خاضتها مصر بالفكر والعرق والدم، بدأت في أيام غمرتها النكبات والتحديات عام 1967، ولكنها استمرت بشجاعة وعزيمة إلى أن تحقق النصر العظيم، واستعدنا آخر شبر في "طابا".
طابا، الجوهرة الأخيرة في تاج النقاط العمرانية المصرية على شواطئ خليج العقبة، تنتشر بين سلسلة جبالها الرائعة وهضابها الشرقية المتألقة، وتغمرها مياه خليج العقبة بحنانها الدافئ. تبعد عن مدينة شرم الشيخ مسافة تقدر بحوالي 240 كيلومترًا جنوبًا، المدينة التي كانت مصدر إلهام وقوة لشعب مصر، فقد جسدت "طابا" رحلة طويلة ومليئة بالتحديات والتضحيات، ترصدها تاريخيًا "البوابة نيوز" خلال السطور التالية:
قضية الفرمان في 1892
في بداية عام 1892، توفي الخديوي توفيق، مما استدعى صدور فرمان من الباب العالي العثماني لتولي ابنه الخديوي عباس حلمي الثاني مقاليد الحكم في مصر. ولكن نظرًا لرغبة السلطان عبد الحميد الثاني في تقليل تأثير الاحتلال البريطاني على الأراضي العثمانية، أصدر فرمانًا يمنع مصر من التواجد في خليج العقبة، مما أثار قضية تعرف الآن بقضية الفرمان. وانتهت هذه القضية بتراجع الباب العالي العثماني، والاتفاق على تحديد حدود واضحة لمصر من الشرق، تمتد من شرق العريش أو رفح إلى نقطة على رأس خليج العقبة.
قضية طابا في 1906
في عام 1906، أثيرت قضية تُعرف الآن بقضية طابا، حيث قررت الدولة العثمانية نشر عدد من الجنود على رأس طابا، مُبررة ذلك بأن طابا تعود ملكيتها لها. ومع ذلك، تم الضغط عليها من قبل القوى الخارجية، مما دفعها للتراجع وإخلاء الموقع. في هذا السياق، قررت الإدارة البريطانية وضع حدود محددة ومعترف بها دوليًا لمصر، والتي بالطبع شملت طابا والمنطقة المحيطة بها من البحر.
الحد الفاصل بعد 1922
في عام 1922، بعد أن اعترفت إنجلترا بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة في تصريح صادر في 28 فبراير من نفس العام، تبدلت حدود مصر وأصبحت مُعترفًا بها دوليًا. وفي هذا السياق، مع تأسيس الانتداب البريطاني على فلسطين، تم تعزيز هذه الحدود وأطلق عليها اسم "الحد الفاصل".
خط الهدنة بعد 1956
في عام 1956، بعد انسحاب العدوان الثلاثي الذي شنته إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر، تم التوقيع على اتفاقيات لوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، وافقت إسرائيل على الانسحاب لخط الهدنة، الذي تم تحديده خارج أراضىي طابا والجزء المطل على البحر
العدو يحتل "طابا" في 1967
في الخامس من يونيو عام 1967، احتل العدو الإسرائيلي كامل سيناء، بما في ذلك طابا. ومع ذلك، استعادت مصر جزءًا هامًا من هذه الأرض المحتلة بالقوة من العدو خلال الحرب في أكتوبر 1973، حيث تم فض الاشتباك الأول في يناير 1974، ثم فض الاشتباك الثاني في سبتمبر 1975.
وبعد ذلك، شهدت مرحلة ثانية من جهود تحرير سيناء، ولكن هذه المرة من خلال المفاوضات السياسية.
محاولة تحريف الحقائق
كانت المفاوضات ناجحة، حيث تم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 26 مارس 1979. ونصت هذه المعاهدة على انسحاب إسرائيلي كامل من سيناء، مع استعادة السيادة المصرية على جميع أراضيها، وفقًا لجدول زمني محدد.
وفي 25 أبريل 1982، انسحبت إسرائيل من كامل سيناء، باستثناء "طابا" التي شهدت جدالًا حول مصيرها. حيث حاولت إسرائيل أن تظفر بها في آخر لحظة كما هي عادتها.
وكان الجانب الإسرائيلي تحريف الحقائق خلال فترة احتلالهم للمنطقة منذ عام 1967 حتى عام 1982، حيث قاموا بمحاولات لتغيير خريطة المنطقة بهدف إزالة العلامات الحدودية المصرية قبل حرب يونيو. وقد قاموا بإزالة قمة الجبل التي كانت تصل إلى مياه خليج العقبة، وحفروا طريقًا بدلًا منها يربط بين مدينة إيلات الإسرائيلية ومدينة طابا المصرية.
رفض "التوفيق" وخوض معركة قانونية
قررت مصر أن تخوض معركتها لتحرير "طابا" بوسائل دبلوماسية وقانونية، حيث استخدمت جميع الوثائق والمخطوطات التي حصلت عليها من دور المحافظات العالمية لتثبت للعالم أجمع أن حق مصر لا يُشكَك فيه ولا يُمكن التنازل عنه.
بعد المناورات الإسرائيلية، وقعت مصر وإسرائيل اتفاقًا ينص على حل الخلاف عن طريق التفاوض، وإذا لم يتم التوصل إلى حل، فسيتم التحكيم أو التوفيق.
وعلى الرغم من فشل المفاوضات ومحاولة إسرائيل التوفيق، إلا أن مصر رفضت بقوة هذا الطرح، لأن التوفيق يعني غالبًا تنازل كل طرف عن بعض مطالبه وقبول حل وسط. وقد أصرت مصر بقوة على التحكيم الدولي كوسيلة لحل النزاع.
وفي أبريل 1982، وقعت مصر وإسرائيل اتفاقًا لتسوية النزاع عن طريق "التحكيم الدولي".
هيئة الدفاع المصرية عن "طابا"
في يوم 13 مايو 1985، أصدر رئيس مجلس الوزراء المصري آنذاك قرارًا رقم 641 يقضي بتشكيل "اللجنة القومية العليا لطابا"، وضم في عضويتها أبرز الكفاءات القانونية والتاريخية والجغرافية. تحولت هذه اللجنة فيما بعد إلى هيئة الدفاع المصرية في قضية طابا، حيث تولت مهمة إدارة الصراع في هذه القضية باستخدام جميع الحجج لإثبات الحق، بما في ذلك الوثائق التاريخية التي شكلت نسبة 61٪ من إجمالي الأدلة المادية المقدمة من ثمانية مصادر.
ونصت مشارطة التحكيم على أن المحكمة مطالبة بتحديد مواقع العلامات الحدودية الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، وهي الفترة التي تمتد من عام 1922 إلى 1948. على الرغم من ذلك، بدأت اللجنة المصرية البحث في الوثائق ابتداءً من الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، مع التركيز على الوثائق الخاصة بالفترة التي تلت عام 1948 حتى حرب يونيو وتحليل نتائج هذا البحث.
"طابا" تعود إلى حضن الوطن
في 29 سبتمبر 1988، أُسدل الستار عن قضية "طابا" بإصدار هيئة التحكيم حكمها التاريخي في جلسة علنية أُقيمت في قاعة المجلس الكبير بالمقر الرسمي لحكومة مقاطعة جنيف بحضور وكيلي الحكومتان، المصرية والإسرائيلية، وأعضاء هيئة الدفاع لكلا الجانبين، حيث تم إعلان عودة "طابا" إلى أحضان الوطن المصري.
وفي 15 مارس 1989، تسلمت مصر "طابا" رسميًا وعادت إلى سيادتها، وتم رفع العلم المصري عليها في 19 مارس 1989، الذي تحول إلى عيد رسمي يحتفل به المصريون سنويًا، مما يجعلها لحظة مؤثرة في الذاكرة الوطنية ورمزًا مشرقًا في تاريخ مصر.