الكتبة والمادحون وشيوخ الطوائف والبناؤون والنحاسون، وغيرهم الكثير من المهن التي اشتهرت في مصر خلال العصرين العثماني والفاطمي والذي سجلت الجدران والمساجد إبداعاتهم التي ظلت راسخة ومنقوشة عبر مئات السنين.
وتأخذكم "البوابة" في رحلة طوال شهر رمضان المبارك؛ للحديث حول تلك المهن وشيوخها وأسطواتها التي اشتهرت في مصر والعالم العربي، والتي لا يزال الكثير منها موجود حتى عصرنا الحالي ومنها من اندثرت وأصبحت تراثا تشهد به جدران المساجد والقصور.
وعلى مدار الشهر الكريم نقدم لكم حرفة من الحرف التي اشتهرت في تلك الفترة واقفين أمام إبداعات فنانيها وقوانيها التي كانت تتوارث جيلا بعد جيل، وحكايات المعلم والصبي والأسطى الذي كان يعتبر رب المهنة.
قالوا في الأمثال " مقدرش على الحمار اتشطر على البردعة"، وقالوا كمان "الشاطرة تغزل برجل حمار"، وكثير من الحكايات التي رواها الأجداد عن الحمار والحمولة والحمارين، فهل فعلا كانت هناك مهنة أو طائفة لـ "الحمارين" أو "الحمارة"؟، نعم فقد لعبت طائفة الحمارة دورًا مهمًا في تاريخ مصر.
لعبت طائفة الحمارة دورًا مهمًا في تاريخ مصر
فقد كانت وسيلة المواصلات الرئيسية لعامة الشعب في القاهرة، وقد بلغ عدد طائفة الحمارين في تلك الفترة نحو "1739" وهو عدد كبير بالنسبة لباقي الحرفيين، بل إنه يعتبر أكبر عدد بين أعداد الحرفيين، وبالتالي يمكن القول أن حرفة الحمارة كانت أكثر حرف تعدادًا.
وكان سكان القاهرة يستطيعون التنقل بسهولة على الرغم من اتساع المدينة، ويعود الفضل في ذلك لكثرة أعداد الحمير والتي لا يخلو منها شارع من شوارع القاهرة تقريبًا، وكانت تتميز بالسرعة والقوة، وقطع المسافات الطويلة في وقت قصير.
وقد انتشر الكثير من الحكايات عن الحمارين وزبائنهم، مثل الحمار الذي رفض أن يركب عليه نظرًا لكبر حجمه ووزنه وكان الحمار هزيلا وضعيفا فأبي أن ينصاع للراكب وأخذ يركض ووراءه الحمار يحاول اللحاق به.
كما ظهر العديد من القصص والحكايات حول "جحا وحماره" ونوادر جحا كانت زاخرة بالحكايات عنه وعن حماره التي كانت لا تنتهي ومن بينها حكاية جحا وابنه والحمار والتي تعتبر من أهم النوادر التي تجسد فيها معاني محاولة إرضاء الناس، فمهما عمل الإنسان لن يستطيع إرضاء الناس ولن يستطيع إسكات أصواتهم أو توجيه الانتقاد له، مهما فعل.
فلم يعجب الناس أن يركب جحا وابنه على ظهر الحمار واتهموهما بالقسوة وعدم الرحمة، وحينما ركب جحا بمفرده اتهموه بالقسوة وأنه جعل ابنه الصغير يسير، وحينما ركب ابنه على ظهر الحمار اتهم الناس ابنه بالابن الجاحد الذي لا يرحم أباه العجوز، وهكذا.
ونعود لطائفة "الحمارة" في أحياء القاهرة والتي كانت أرخص وسيلة نقل في تلك الفترة كما أنه كانت لديه القدرة على المرور في الحواري والأزقة الضيقة بأحياء القاهرة، وكان أيضًا من السهل الحصول على ركوبة الحمار فمن الممكن استئجار حمار من أحد "المكاري" والمكاري هو صاحب الحمار أو من يتولى رعايته وتأجيره للركاب.
وكلمة مكاري تعود إلى العربة "الكارو"، وكانوا "المكاريين لهم مواقف معروفة أغلبها عند أبواب القاهرة، ومداخل الأسواق، وكان يقوم بتجهيز الحمار ووضع عليه "البردعة" أو "البردغة" والتي كانت تصنع من الجلد الأحمر ومقعدها بشرائط صوفية ناعمة وتكون محشوة.
وكان يصاحب الحمار الصبي أو التباع والذي يصاحب الحمار والراكب في رحلته وكان يقوم بإطلاق النداءات لإبعاد المارة عن طريقه، وذلك لتفادي الحوادث.
وكانت العادة أن يركب البغال أغنياء التجار وكبار العلماء، وعندما يكون الراكب عالمًا كانت يغطي ظهر البغل بسجادة، ويركب النساء من الطبقتين العليا والوسطى الحمير عندما يخرجن للزيارة.
وكان يجلسن على "بردعة مرتفعة عريضة تغطي بسجادة صغيرة، ويسير في ركابهن رجل واحد أو رجلان كل منهما في جانب، وكانت السيدات يركبن جميعهن معًا الواحدة خلف الأخرى، ويطلق على الحمار الذي يجهز بـ"البردعة المرتفعة "الحمار العالي".
وتركب سيدات الطبقات العليا وسيدات الطبقات الوسطى الحمير المجهزة بهذه الطريقة، وإن لم تستطع النساء الحصول على حمار عالٍ كانت تركب الحمار الذي يركبه الرجال، وذلك بعد أن يتم وضع سجادة عليه.
يتبع..،