الكتبة والمادحون وشيوخ الطوائف والبناءون والنحاسون، وغيرهم الكثير من المهن التي اشتهرت في مصر خلال العصرين العثماني والفاطمي والذي سجلت الجدران والمساجد إبداعاتهم التي ظلت راسخة ومنقوشة عبر مئات السنين، وتأخذكم «البوابة نيوز» في رحلة طوال شهر رمضان المبارك، وحديث حول تلك المهن وشيوخها وأسطواتها التي اشتهرت في مصر والعالم العربي، والتي لايزال الكثير منها موجودا حتى عصرنا الحالي ومنها من اندثرت وأصبحت تراثا تشهد به جدران المساجد والقصور.
وعلى مدار الشهر الكريم نقدم لكم حرفة من الحرف التي اشتهرت في تلك الفترة واقفين أمام إبداعات فنانيها وقوانيها التي كانت تتوارث جيلا بعد جيل، وحكايات المعلم والصبي والأسطى الذي كان يعتبر رب المهنة.
يقول أبوزيد الهلالي سلامة: «لا يكتم الأسرار غير الأصايل \ ولا يكشف الأخبار غير خائن رديء الأصال من قومٍ أراذل\ أنا أبو رزق من أهل عامر وأمي شريفة من خيار القبائل\ سُميت أبازيد على الناس زايد كريم شجاع من كرم أفاضل».
كان الناس قديمًا ينتظرون في الليالي والأفراح والاحتفالات الشعبية والموالد قدوم الشاعر أو الراوي ممسكًا بيده آلته الشهيرة «الربابة» ليعزف بها ويتغنى ليحكي سير الأبطال، فكان الرواة هم التسلية والملاذ في ليالي السمر والأعياد، وكان لأصواتهم وطريقة غنائهم فعل السحر على القلوب.
القصاصين والشعراء.. وأول ما نبدى القول نصلى على الهادى
وكان الراوي أو القاص أو الشاعر أو كما كان يُطلق عليهم أحيانًا أسماء الرواية أو السيرة التي يحكونها ويبرعون في روايتها، فكان يُطلق عليهم أيضًا «أبو زيديه» نسبة إلى سيرة أبوزيد، وكان عدد الشعراء أو الرواة المتخصصين في رواية سيرة أبوزيد الهلالي بمدينة القاهرة حوالي 50 راويا، وذلك في مطلع القرن التاسع عشر، والتي باتوا الآن يعدون على أصابع اليد الواحدة، كما أنهم لا يعرفون السيرة بكاملها كما كان يرويها الآباء والأجداد قديمًا.
وكانت السيرة يتم روايتها بمصاحبة العزف على آلة الربابة في لغة موزونة وباللهجة الدارجة، وكانت تفعل فعل السحر بطريقة سردها البسيط والممتع، وكانت كل قطعة شعرية تبدأ بالصلاة على النبي الكريم محمد بن عبد الله «عليه الصلاة والسلام».
وكان الرواة أو الشعراء يرون دائمًا من الذاكرة فكانوا يحفظون السيرة عن ظهر قلب، ولا يمكن أن يستعينوا بأي كتب، بل على العكس كان أغلبهم لا يعرف القراءة أو الكتابة وكانوا يعتمدون على ذاكرتهم وإتقانهم في حفظ السيرة، وينوعون في شكل أدائها من الميلاد وحتى التغريبة وكل الشخصيات والصراع بداخل القصة، والتي كان ينتظرها الجميع للاستماع إليها ولأخذ الحكمة والموعظة منها، فسير الأبطال دائمًا ما كانت مصدر إلهام ومتعة للسامعين، وكان يصحب الراوي في أغلب الأحيان عازف على الرباب، وكان يُطلق عليه «الرباب الأبوزيدي» إذ كان لا الراوي لا يتقن العزف، وكان يكتفى الشاعر أو الراوي أثناء الحكي إلا على نغمة أو نغمتين واحدة في المقدمة والفواصل خلال سرده للسيرة.
كما تميز بعض الرواة بتسمية خاصة أيضًا مثل الهلالية، والزغنبية والزناتية وذلك تبعًا لما يختصون به من سرد وقائع الأبطال المختلفين من قبائل بني الهلالي والزغبي والزناتي المذكورين في السيرة، فكان القليل فقط من الرواة الذين يحفظون السيرة الهلالية كاملة، وكان يفضل كل شاعر أو راوي بحكي جزء من السيرة ويكون قد تخصص فيها وحفظها عن ظهر قلب.
وكان من بين رواة القصص أيضًا طبقة أخرى تميزت بتسمية خاصة، ومنها: « المحدثون» وكانوا مختصين في رواية «سيرة الظاهر» أو «السيرة الظاهرية»، وكان يطلق عليهم «الظاهرية»، وهم من يقومون برواية سيرة وتاريخ الظاهر بيبرس، والذي اعتلى عرش مصر عام 1260 ميلادي، وكانت تتألف سيرة الظاهر بيبرس من 6 أجزاء مربعة الشكل، مُقسمة إلى عشرة أقسام، وكانت مكتوبة باللغة العربية المصرية الحديثة.
وكانت هناك أيضًا طبقة ثالثة من الرواة أو الشعراء وكان يُطلق عليهم «عناترة» أو «عنترية»، وكان عددهم قليلا بالنسبة لباقي الرواة وتعود تلك التسمية نسبة إلى الرواة المُختصين برواية «سيرة عنترة»، وكان أغلبهم يستعينون بالكتب خلال حكيهم، فكانوا لا يروون من الذاكرة مثل باقي الرواة أو الشعراء فكان يلقون شعر عنترة من الكتاب، أما الجزء النثري من السيرة فكانت يتم روايتها بالطريقة الدارجة أو اللغة الدارجة، وكان لا يستعملون الربابة خلال الحكي.
و«العناترة» لا يقتصر روايتهم على سيرة عنترة فحسب، وإنما كانوا يرون بعض قصص وسير المجاهدين، والتي كانت تسمى «كسيرة دلهمة» أو «ذو الهمة» وهو اسم بطلة القصة «الأميرة ذات الهمة» كما انتشرت العديد من السيرة الشعبية، ومنها «سيرة سيف اليزل، وقصص ألف ليلة وليلة».