في "عقيقة رامبرانت" للفنان عمر جبر، المعرض الفني الذي احتضنه جاليري أبونتو، يستطيع المشاهد أن يشتم رائحة رفض لكل ما هو رومانسي من فن وكل ما هو متقوقع داخل ذاته، ولو كان عمر جبر فنانا أوروبيا يعيش هناك في فترة بين الحربين، لانضم بلا شك للدادئيين أو الواقعيين الجدد ورفض الانضمام للتعبيريين الألمانيين أو الوحشيين الفرنسيين.
في مستهل دخولك قاعة العرض، أنت لا تعرف بالضبط إلى أي تصنيف قد تنتمي تلك الأعمال، هل هي تجربة في التصوير أم الكمبيوتر جرافيك أم الآسيمبولاج والكولاج أم البوب آرت الممزوج بفن مفاهيمي.
ورغم أن المعرض يمتلئ باللوحات وأعمال التركيب ثلاثي الأبعاد، إلا أنك لن تكون مخطئا أبدا لو شعرت أنك أمام تجربة لفنان مفاهيمي يريد أن يشتبك مع دماغك ويفكك مفاهيمها أكثر مما يشتبك مع عينيك كما فنانو البوب آرت أيضا، وهذا نلاحظه من العنوان الغامض للمعرض "عقيقة رمبرانت".
فـ "عقيقة رامبرانت" كلمتان قد يكونان عكس بعضهما البعض. رمبرانت كلمة ترتبط بعبقرية فذة أحدثت ثورة في التصوير الأوربي، بينما "عقيقة" كلمة ترتبط بالمجتمعات الإسلامية في الشرق وترتبط بالطفولة حيث العقل الذي لم ينضج بعد مقارنة بعقل ذلك الكبير رامبرانت. وربما لو تأملنا الصورة (1) بعدما تأملنا عنوان المعرض سنقرأها بشكل له علاقة برامبرانت.
فالصورة عبارة عن وجه بطل لعبة جي تي أيه وهو ينظر لقدم ضخمة من منظور معاكس للقدم الضخمة في لوحة درس تشريح دكتور ديجمان لرامبرانت شكل (2) الصورة التي ثارت على نسب ومناظير فن عصر النهضة فأحدثت تضخما في يد وأقدام الجثة، أقدم تظهر بمفردها لأن ملاءة بيضاء تقطعها ولا نعرف ما علاقتها بالنص الأعلى للجثة الصورة أيضا تقطع القدم لا يمكننا تحديد مدى علاقتها بالجسم.
عند جبر تظهر الأقدام متضخمة. قدم أضخم من قدم. وجه القدم مقابل لعين المشاهد بينما بطنها في وجه بطل لعبة جي تي أيه وكأنه جلس على الأرض يتأمل جثة رامبرانت.
عندما بحثت عن السيرة الذاتية للفنان عرفت أنه تعرض لإصابة في قدمه إثر حادث، وربما هذا النص السيري ما يبرهن انتشار الأقدام في الأعمال المعروضة، كما كثير من الفنانين المعاصرين الذين يصورون أحداثهم الشخصية، آخرهم كانت الفنانة أسماء سيد التي فاز عملها في صالون الشباب الأخير وكان عبارة عن سلسلة فقرات تسبح في فضاء العالم، واهتمت بالفقرات بعد إصابة قد تعرضت لها أيضا إثر حادث. القدم أيضا موجودة في عمل (صورة 3) وهي تدوس علم إسرائيل.
تبرز بقعة حمراء على الإصبع الكبير في (صورة 1)، فلدى جبر ولع بالأحمر يتفنن في صناعة ملامسه ويخرج من تدرجاته ظلالا ونورا يرضيه، يختزل فيه الزمن أحيانا، كما في (صورة 4) وأحيانا يعزف به موسيقى تسيل أشكاله كما في (صورة 5).
ما يجعلنا نلاحظ الأحمر بحيويته ليس التكرار فقط بل المعركة اللونية التي ينجم عنها هذا اللون، ففي (صورة 4) تتدرج الرماديات في المساحة الكبرى التي تقطعها حركة الأيادي من اللوحة لتفرش للأحمر هذا الزهو.
للرماديات تأثير قوي على الاعمال في "عقيقة رمبرانت" فاللون الباهت هو الذي يسيطر على أغلب مساحة الخلفيات متعددة الألوان، وكأنه تعمد العمل على كانفس مطبوع عليه صورة بطبعة ليزر تنشر صورها على الكانفس بأقل جودة ممكنة ثم يصقل بعد ذلك الفيجرز الذي يريد صقلها، إما بتطليخها بالألوان بكثافة تخلق ملامس عالية، أو بلصق قطع جاهزة أو كولاج أو طباعة. يظهر ذلك جليا في (صورة 6) فثمة خلفية باهتة وفيجر عالي الملامس وقطع ملصقة على رأسه.
إن كل ما هو يومي ومعاش وشائع جلي في لوحات عمر جبر، ما يجعله متأثر بمدرسة البوب أرت الأمريكية، ففي لوحاته بوروتريهات لشباب بقصات شعر وملابس عصرية تعبر عن طبقة محلية معينة ينتمون إليها، تنتشر ألعاب الأطفال في أغلب الأعمال، بالذات أعمال التركيب ثلاثي الأبعاد، ففيها قطع لميني وميكي وجيري وأرانب أفلام الكارتون الأمريكية، وشحصيات ألعاب البلاي ستيشن المشهورة، وكأنه يصحبنا في جولة لحي الموسكي حيث انتشار العربات التي تمتد بكل هذه الألعاب وجولة أيضا داخل شاشة الكمبيوتر التي تسيطر على وقتنا أغلب فترات اليوم، كل هذه الشخصيات تثير حسا كوميديا حينما تلتحم برموز جادة في بعض اللوحات كرمز النسر في علم مصر والقدم التي تدوس علم إسرائيل، وكأنه يريد أن يعبر على كل الأشياء المحيطة به بابتسامات خاطفة وصل فيه إلى حد الحس الساخر من الفن العظيم والفن العبقري، فـ (صورة 7) عبارة عن صورة مطبوعة للوحة مشهورة للفنان النمساوي الأكاديمي إميرلينج الذي تأثرت بورتريهاته برمبرانت في أسلوب التصوير الليلي لنجد أنه أحاطها بإطار مليئ بألعاب الأطفال المعاصرة.
أيضا في (صورة 8) كرر التكوين الشهير لفرنسيس بيكون حيث الفيجرز مشوهة النسب التي يتم خلقها بضربات فرشاة عنيفة وتظهر دائما ممدة على أريكة، صنع ذلك عمر وملئه بوشوش لألعابه وملئ مساحة الفيجر بقطع ذهبية اللون تبدو رمزية وزخرفية في نفس الوقت، وفي المعرض بورتريه لشخص يشبه بيكون وربما يكون لبيكون نفسه بقصة شعره المميزة وعينيه الخضراوين (صورة 9).
وكان أسلوب الفوتومونتاج سلاحه في هذا حتى حينما يعبر عن الحزن فيه وينشأ بورتريه حزين (صورة 10) وهو بورتريه لطفل عليه شارة حداد وفي فم الطفل علبة بها خاتم خطوبة، و(صورة 1) حينما اختار الوجه الحزين وجه بطل لعبة جي تي أيه وجعل ملامحه تتهدل وهو شخصية تظهر في اللعبة كمافيوزي، وفي (صورة 11) وجوه حزينة لثلاثة رجال أضفى عليهم بعدا سرياليا حينما جعل رؤساهم تنبت من رقبة نمر، بأسلوب الفوتو مونتاج أيضا الذي طالما لازم فناني السريالية والدادائية وازداد ضخامته عند فناني البوب آرت بعد تصميم برامج الكمبيوتر جرافيك الكبرى كالأدوبي فوتو شوب.
من اللمحات المميزة أيضا في أسلوب عمر استخدامه المسرحة داخل الأستديو الخاص به، لأنه واضح كم أن شخصياته غاية في الواقعية فمعنى ذلك أنه لا ينشئ أشكاله من قوة تصوره الخاصة، بل يعتمد على التصوير الفوتوغرافي داخل الاستديو ثم يخوض مع الصور معركة لكي يتم تحويلها لأعمال فنية يقرر عرضها، فلو كان هذا الافتراض سليم فأن هذه الشخصيات تم التحكم بها بشخصية مخرج مسرحي في وضع جلساتها وتعبيراتها الدرامية، ويتجلى هذا بقوة في (صورة 4) حيث المرأة التي تخنق والحركة المهيبة لعدد كبير من الأيادي حول رقبتها ووجها للتعبير عن الزمن كما أسلفنا.
ورغم تجلي روح البوب أرت إلا أن هناك شعرة يقف عليها فن عمر جبر بين كونه مفاهميا وكونه بوب، حيث أنه يجعلك تتساءل دائما وتفكر بسبب العلاقات التي ينشأها بين أعماله: هل الأشياء البسيطة التي يتأثر بها المصريون كألعاب الأطفال على العربات وألعاب البلايستيشن، واستايلات الملابس في بعض طبقاتها كالجينز المقطع على الصندل والتي شيرت وقصة الشعر ذات خطوط الموسى الحادة، هل هذا قد يشكل هوية مصرية تمتزج بالتكنيكات الغربية لصناعة صورة جديدة؟، هل لدى صور عمر تشابك مع مفهوم الاستشراق وثنائية الشرق والغرب؟ أم أن الموضوع ماهو إلا لعبة من ألاعيب البوب أرت ومرحه الدائم؟.