صدر مؤخرًا عن المجمع المختص بتوضيح إيمان الكنيسة الكاثوليكيّة، بيانًا تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة مغلوطة وغير موضوعيّة لمضمونه، وتمّ تفسيره بأنّ الكنيسة "تسمح" بزواج المثليين، أو أنها توافق عليه! مما استدعى شرح وتفسير هذا الإعلان من منطلق الفهم الصحيح.
أولًا: هدف البيان
يأتي البيان بحسب الدكتور الأب أندراوس فهمي أستاذ اللاهوت الأدبي تحت العنوان اللاتيني Fiducia Supplicans ويعني حرفيًا "طالبين الثقة" وهو أول كلمتيّن يبدأ بهما البيان، ويؤكد أنّ الشعب المؤمن الواثق في كنيسته والمؤمن بها ينال البركة من قلب المسيح.
ويوضح العنوان الفرعي هدف البيان وهو بكل بساطة "شرح وتفسير معنى البركة الرعويّة"، فالأمر هنا يتعلق أساسًا بتوضيح مفهوم البركة رعويًا في الكنيسة الكاثوليكيّة، ومن ثمّ لا يهدف إلى إعلان موافقة الكنيسة على الزواج المثلي أو الزواج خارج "سر الزواج".
ثانيًا: مضمون البيان وتوافقه مع كنيستنا القبطيّة
حتى نعرض مضمون البيان، ينبغي أن نميّز بين ما هو دارج في العقلية الشرقيّة عن "مفهوم البركة" وفي العقليّة الإيمانيّة عن نفس المفهوم. ففي مجتمعاتنا نقول أنّ ملكًا "يبارك" الحرب، أو رب أسرة "يبارك" زواج ابنه مثلًا، فيتبادر إلى الذهن مباشرةً أن البركة هنا تعني "الموافقة"، وهذا صحيح في المفهوم الشعبيّ والمجتمعيّ للبركة، ولكنّه يختلف مضمونًا عن البركة بالمفهوم اللاهوتيّ. فأصل كلمة "البركة" باللغة اللاتينيّة هي Benedictio وهي كلمة مركبة من مقطعيّن: Bene وتعني "حسن"، والمقطع الثاني dictio وتعني "قولًا"، وهنا يكون معنى البركة هو "القول الحسن"
يذكر أنّ اللغة القبطيّة تستخدم نفس المصطلح، اليوناني "إيلوجيا" Ευλογία ويتكوّن من شقين أيضًا: Ευ وتعني "طيب أو حسن"، وλογία وتعني "قول أو كلمة"، وبذلك يكون مفهوم البركة في اللغة اليونانية "قول طيب"، وهذا ما جعل الكنيسة القبطيّة تطلق على "لقمة البركة" التي يوزعها الكاهن في ختام القداس "إفلوجيا أو إيلوجيّا" لأن القربان الذي يتم توزيعه حضر ذبيحة القداس، وبالتالي فهو تمتع بكل "الكلمات الطيبة" التي قيلت في القداس الإلهي من صلوات وتسابيح لله، ولذا فهو "بركة".
مفهوم البركة إذًا ليس مرادفًا لكلمة "السماح أو الإذن، أو الموافقة لكن في هذه الوثيقة لها مدلولها الرعوي وليس العقائدي، فالكاهن يمكنه أن يبارك المنازل الجديدة، ويبارك المياه، والزيوت والمأكولات والحيوانات والمزروعات والسيارات والأشخاص.
لذلك تستخدم الكنيسة "صلوات للبركة" وهي "أقوال حسنة" مستوحاة من الإيمان بأن يسوع المسيح هو أساس البركة، وحضوره هو علامة على إيمان الشخص به. وهذا ما جعل كل الكنائس تستخدم كتب الصلوات التي تحوي بركات مختلفة، وميّز هذه الكتب عن الكتب الطقسيّة التي تستخدم في إقامة الأسرار الكنسيّة.
ثالثًا: طالب البركة
الكنيسة لا يمكنها أن تُقصي الخطاة من جماعة المؤمنين، وإلا ستكون مناقضة وضد تعاليم السيد المسيح نفسه الذي جاء ليدعو الخطأة للتوية (مر 2: 17)، بل أنّ رسالة المسيح هي البحث عن هؤلاء الخطأة (مثل الابن الضال، والخروف الضال، والدرهم المفقود.
لذلك من يطلب بركة الكنيسة فهو في صميم قلبه مؤمن بالمسيح ورحمته، ويطلب أن يحل المسيح في حياته من خلال بركة الكنيسة. وهذا ما استدعى الكنيسة أن توضح في هذا الإعلان أنّ طالب البركة هو إنسان يشعر بوجود شيئًا غير لائق بإيمانه، ويحتاج لحضور المسيح ومرافقته له (الفقرة رقم 8 بالإعلان). فالكنيسة الكاثوليكيّة، مثلها مثل باقي الكنائس، تتبنى مبدأً هامًا جدًا وهو "قبول الخاطئ ورفض الخطيئة" الذي تمارسه كل الكنائس على مثال سيدها يسوع المسيح، فلا نجد كنيسة مؤسسة على صخرة الإيمان "يسوع" تقوم برفض الزاني مثلًا، فعندما يأتي يطلب التوبة فالكنيسة تقبله وتعطيه الحَل من خطاياه في سر "المصالحة أو الاعتراف" لكن في نفس الوقت هذا الحَل وهذا القبول لا يعني أن الكنيسة "موافقة" على فعل الزنا في ذاته، كما أنّها لا تضمن أن هذا الخاطئ لن يكرر فعلته مرةً أخرى، ولهذا فعندما يأتي إليها مرة أخرى معترفًا، فلا ترفضه وتحاول معه رعويًا أن يمتنع عن خطأة.
الجدير بالذكر، أنّه في الكنائس التقليديّة التي بها رتبة الكهنوت وفي ختام الصلوات الطقسيّة والصلوات الأخرى المختلفة يمنح الكاهن "البركة" ولكنه لا يعلم إذا ما كان من ضمن الحضور أشخاصًا مذنبين وخطأة أم لا، ولذلك فالكاهن يمنح البركة للكل من خلال ذكره لحلول الآب والابن والروح القدس على الجميع، "أي الكلمات الطيبة"، وأمّا مفعول البركة فلا يضمنه الكاهن، ولكن مفعول البركة يظل بين الأشخاص وإلههم.
رابعًا: البركة الرعوية لمثليّ الجنس ولغير المتزوجين أسراريًا
الحياة الرعويّة تختلف من منطقة إلى أخرى، بل ومن مدينة إلى أخرى، والكنيسة مدعوة لإيجاد طرق للبحث عن الابن الضال والذي هو من صميم عمل الكهنوت. فالكنيسة، في المجتمع الغربيّ بثقافاته المتعددة وأيدولوجياته المتغايرة، تبحث، كما هو الحال في الشرق، عن طرق رعويّة للبحث عن أبنائها وعدم تركهم في مشاكلهم وهمومهم، بل تتضامن معهم وتساندهم ليعرفوا الطريق والحق والحياة. ولذلك، وفي ظل الازدياد الرهيب في الغرب لظاهرة المثليّة الجنسيّة والزواجات خارج إطار الكنيسة، وفي ظل موافقة مجتمعيّة كبيرة على مثل هذه الأمور، فقد أصدرت الكنيسة هذا البيان، كمبادرة رعويّة لاحتضان هؤلاء البعيدين عنها، وبدون الإخلال بإيمانها ومعتقداتها. فالوثيقة تؤكد إيمان الكنيسة بسر الزواج ولا تقبل تسميّة أي نوع من العلاقات خارج إطار سر الزواج بنفس الاسم (الفقرة 4 من الإعلان)، ولا تسمح ولا تصرح بالمثليّة الجنسيّة، ولكنّها كأم ومعلمة شرحت معنىً رعويًا جديدًا أمام هؤلاء الذين يبحثون عن الله رغم كل ما يعيشوه، ولذلك استطردت الوثيقة في شرح هذا المفهوم الرعوي لقبول الأشخاص، وإمكانية قبولهم بهذه البركة، أي أنّه رغم رفضها لحالتهم لكنّها تقبلهم كأشخاص طالبين حضور الله، وطالبين ألا تتركهم الكنيسة. ولذلك أعلنت الوثيقة أنّ الكنيسة ترفض أي طقس يناهض طقس سر الزواج (الفقرة 5 من الإعلان).
وتشرح الوثيقة جيدًا معنى أن يطلب شخص ما بركة الكنيسة، فتوضح أنّ مثوله للبركة يعني أنّه مؤمن بوجود الله ويحتاج تدخله، وأن إرادته مطابقة لإرادة الكنيسة في تعليمها (فقرة 9 من الإعلان)، ولكنه يحتاج لمرافقة الكنيسة له، وهذا ما جعل الوثيقة تأخذ عنوان "طالبين الثقة"، أي هؤلاء المؤمنين الذين لديهم مشاكل ويحتاجون من الكنيسة كأم لهم أن تدعمهم وترافقهم وتثق فيهم (الفقرة 21 من الإعلان). ومع ذلك، ففي الوقت الذي تسمح فيه الكنيسة بمباركة شيء أو شخص ما، فهذه البركة تهدف إلى تمجيد الله والخير الروحيّ لشعبه، بشرط ألا تتعارض أبدّا مع شريعة الإنجيل (فقرة 10 من الإعلان).
خامسًا: منح "الكلمة الطيبة" للمثليين والزواج الغير أسراري
من كل ما سبق، والاستفاضة الكبيرة في الإعلان ذاته عن المعنى الرعويّ للبركة، خصص البيان جزءً لتفادي الخلط في فهم موقف الكنيسة الرعوي، وأوضح أنّ هاتان الظاهرتان: المثلية والزواج غير الأسراري (الذي يطلقون عليه في الغرب المعايشة بدون نوال سر الزواج المسيحي)، يمثلان تحديًا رعويًا أمام الكنيسة، ولابد للكنيسة كمعلمة وكأم للجميع، وبدون تمييز، أن تجد طريقة رعوية لاحتضان هؤلاء الذين يعيشون في هذه الحالات، مثلهم مثل أي خاطئ يحتاج إلى بركة الله في حياته. فتؤكد الوثيقة أنّ هذه البركة الممنوحة لهم هي بمثابة اعتراف منهم باحتياجهم إلى الله، وشعورهم أن حياتهم ليست كما يرام (الفقرة 31 من الإعلان)، وبتأكيد كبير على أن نعمة الله تعمل أيضًا وبوجه خصوصي في الخطأة الذين يطلبونها، رغم عدم استحقاقنا جميعًا لهذه النعمة (خطأة كنا أم أبرار).
وفي كل الطقوس الكنسيّة نجد صلوات تعبر عن ذلك، ففي الطقس القبطي نجد صلوات كثيرة تعلن عن عدم استحقاقنا لنعمة الله، ولكن الله من فرط رحمته يمنحنا إياها، ففي صلاة الحجاب في القداس الغريغوري يقول الكاهن (والمفترض أنّه الأكثر استحقاقًا بحكم تكريسه): "أيها الرب الإله ضابط الكل العارف أفكار البشر والفاحص القلوب والكلي إذ وأنا غير مستحق دعوتني إلى خدمتك المقدسة هذه لا ترذلني ولا تصرف وجهك عني..." وفي الطقس اللاتيني نجد هذه الصلاة «أيها الإله القدير الأزلي، الذي تستجيب صلوات شعبك بما يتخطى كل رغبة وكل استحقاق، اسكب علينا رحمتك: اغفر لنا كل ما يخشاه الضمير وأضف إليه ما لا تجرؤ الصلاة على رجائه» (الأحد السابع والعشرون من الزمن العادي). فنعمة الله إذًا أعظم بكثير من استحقاقنا، ولا يوجد من يستحقها، فكم بالأحرى هؤلاء الذين يشعرون بأنهم بعيدين وضالين عنه!!
وتُحذر الوثيقة من رفع هذه البركة إلى مستوى البركة الليتورجيا الممنوحة في سر الزواج، ولا حتى البركة الممنوحة في أشباه الأسرار (فقرة 36 من الإعلان)، فهي ببساطة صلاة لاستمطار رحمة الله على طالبيها. كما تحذر من أن تصبح هذه البركة قانونًا أو قاعدة. لذلك يحذر الإعلان من استحداث أي طقوس أو أساليب مشابهة بأي صورة من الصور بالمراسيم الخاصة بالزواج حتى في الملابس المستخدمة حتى لا تُفهم على أنّها بديلًا لسر الزواج، ولتكن صلاة بسيطة نستمطر فيها رحمة الله (فقرة 39 من الإعلان).
خاتمة
الكنيسة الكاثوليكيّة مثلها مثل باقي الكنائس، فهي المنوط بها التوجيه الرعوي لتوسيع الآفاق وعدم الانغلاق في العقليّة الرعويّة، وعدم العودة إلى فكرة أنّ الله يميّز فئة معينة من البشر عن غيرها، فحاشى لله أن يكون لديه هذا التمييز في علاقته بالإنسان الذي خلقه. ولذلك الكنيسة الكاثوليكية لديها من الشجاعة والفطنة والإيمان مما يجعلها لا تقع في دائرة العزلة عن شعبها وأبنائها، أو غلق أبواب الملكوت عن الآخرين (مت 23: 13). ففي هذا الإعلان نتلمس الكنيسة كأم تسعى لطلب الابن الضال بدون الإخلال إطلاقًا بمبادئ الإيمان، فلم ولن تعترف بالزواج المثلي ولا بالزواج خارج نطاق السر المقدس، ولكنّها لم ولن تتخلى أيضًا عن أبنائها الذين تضعهم الظروف أو الأخطاء أو محدودية الحياة في طريق آخر، فهي كأم ومعلمة تشعر بقوة بدورها ومسئوليتها عن هؤلاء وغيرهم، تنفيذًا لمنطق الراعي الصالح الذي أعلن أنّ له خراف أخر ليست من هذه الحظيرة وينبغي عليه (كراعٍ صالحٍ) أن يأتي بهؤلاء أيضًا (يو10: 16). كما أنّ الوثيقة تسلط الضوء على أهمية استمطار رحمة الله وأهميّة الصلاة لأجل الجميع وبالأخص هؤلاء الأكثر احتياجًا، ففي هذا الإعلان تأكيدًا لمفعول الصلاة واستحضار الله في حياة هؤلاء الذين نصنفهم خطأة، وبذات الوقت لا تتنازل أبدًا عما تسلمته من المسيح عن سر الزواج وقدسيته. فحتى لو العلاقة بالله أُصيبت بالعطب من قبل الخطيئة فهذا لا يمنع استمطار واستحضار رحمته من خلال البركة (الكلمات الحسنة) التي يمكنها أن تغير القلوب وتحتضن الخاطئ وتفتح أمامه أبواب