يتفرّد العقل الصهيونى بابتكاره حروب إبادة جماعية تخترق كل الحواجز والخطوط الحمراء التى رسمها الضمير الإنسانى عبر التاريخ، وها هو يشن حرب تجويع وحرمان ضد ٢٫٣ مليون مواطن فلسطينى يسعى إلى إبادتهم إما بالموت جوعًا، وإما بقتل قضيتهم لإجبارهم على الهجرة والبحث عن وطن جديد ينزحون إليه باحثين عن لقمة خبز وشربة ماء.
العقل الصهيونى بحكم طبيعة تكوينه الفاسدة القائمة على خرافة "شعب الله المختار" يعتقد أنه الأرقى والأفضل والأذكى بالنسبة لباقى البشر ومن ثم يعتقد أنه الأولى بالبقاء والحياة لذلك صارت حروب الإبادة وقتل الآخرين جزءًا أصيلًا من تكوينه وقناعاته.
فشل الاحتلال الصهيونى بآلة الحرب والدمار المدعومة أمريكيًا وأوروبيًا فى تحقيق انتصار عسكرى على فصائل المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة وذخائرها محلية الصنع فلجأ إلى ما يمكن تسميتها باستراتيجية الجوع والحرمان لكسر إرادة مئات الآلاف من المدنيين وإجبارهم على ترك بلادهم؛ وهى استراتيجية يلجأ إليها فى العادة المستبدون لفرض إراداتهم وجعل الخيارات أمام الشعوب المحتلة محدودة والأحلام ضيقة لا تتجاوز لقمة خبز تسكت البطون الجائعة.
"ليتنا متنا بالقصف.. فالجوع يقتلنا ويقتل أبناءنا كل لحظة".. لسان حال ٧٠٠ ألف فلسطينى فى شمال قطاع غزة ومليون وثلاثمائة ألف فى مدينة رفح؛ وفى الوقت نفسه لا ينشغل الأمريكيون إلا بقضية تحرير أسرى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية.
من المفارقات الحضارية أن يظل العقل الصهيونى البدائى متواجدًا فى العصر الحديث الذى أنتج خلاله الضمير البشرى الميثاق العالمى لحقوق الإنسان، ومن المفارقات أيضًا أن يجد هذا العقل البدائى من يدعمه فى تبنيه استراتيجية الجوع والحرمان لكسر إرادة الفلسطينيين وتركيعهم، فها هى بعض الدول التى تنتسب إلى الحضارة الغربية تعلن وقف مساعداتها لوكالة الأونروا لإغاثة الفلسطينيين استنادًا لإدعاء صهيونى لم تقدم حكومة نتنياهو دليلًا واحدًا على صحته مفاده أن فصائل المقاومة تستخدم مقرات الوكالة وإمكاناتها اللوجيستية فى أغراضها العسكرية، وهاهو العالم يقف عاجزًا أمام استهداف قوات الاحتلال الصهيونى لشاحنات الإغاثة مما اضطر برنامج الغذاء العالمى إلى وقف مساعداته لسكان شمال قطاع غزة، والمحصلة أن الإرادة السياسية للدول التى تدعى التمسك بمبادىء الضمير الإنسانى وقيم حقوق الإنسان قد وقفت عاجزة مشلولة إما إراديًا أو لا إراديًا أمام مشاهد إعداد الخبز من أعلاف البهائم حتى نفدت ثم البحث عن أوراق الشجر وحشائش الأرض وشرب المياة الملوثة.
يقول اللواء طيار د. هشام الحلبى الخبير العسكرى والاستراتيجى أن حرب التجويع تأتى فى سياق استراتيجية إسرائيلية أشمل تستهدف تهجير الفلسطينيين إما قسرًا عبر القصف العشوائى للمدنيين أو طوعًا تحت ضغط الجوع والحرمان مؤكدًا أن العقلية الصهيونية لا تلتزم بأى خطوط حمراء للقانون الإنسانى العام وقواعد القانون الدولى التى تجرم ارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين أثناء الحروب مذكرًا بقصف الجيش الصهيونى للأهداف المدنية فى مصر أثناء حرب الاستنزاف "مدرسة بحر البقر".
سألته: ما إذا كانت بعض المواقف الدولية المطالبة بوقف الحرب وتمكين شاحنات المساعدات الإغاثية من الوصول إلى مختلف مناطق القطاع قد تشكل ضغطًا حقيقيًا على حكومة نتنياهو المتطرفة وعن الموقف الحقيقى للأمريكيين؟ قال: لابد من فهم العقلية الإسرائيلية.. إنها ترفض الرضوخ لأية ضغوط والمسئولون الإسرائيليون يعلمون أنهم سيحالون للمحاكمة الجنائية بمجرد وقف هذه الحرب، ومن الخطأ الاعتقاد بأن واشنطن أو غيرها من العواصم الغربية تستطيع التأثير على الموقف الاسرائيلى؛ فإسرائيل لها حضور سياسى قوى ومؤثر داخل تلك البلدان وعلينا أن نتذكر دائمًا الدور الحيوى الذى تلعبه منظمة الإيباك الصهيونية داخل المجتمع الأمريكى.
ومع إعلان جاك سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى توصل مصر وقطر وإسرائيل والولايات المتحدة إلى ملامح مبدئية لاتفاق هدنة مؤقتة وحل أزمة الأسرى، بتحرير ١٥ أسيرًا فلسطينيًا مقابل كل أسير إسرائيلى بحسب تصريحات مسئولين بحركة حماس، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو إلى إطلاق تصريحات قد تقضى على الجهود التى بذلتها أطراف المفاوضات الأساسية وتعرقل امكانية بلورة اتفاق نهائى خلال جولتين مرتقبتين فى الدوحة والقاهرة، حيث بادر بالقول نسعى لاتفاق لتحرير الأسرى ولا نتمنى نجاحه، وحتى لو توصلنا إلى اتفاق فانه لن يؤخر عملية اجتياح رفح بريًا.
يبدو نتنياهو مصرًا على الاستمرار فى هذه الحرب وتهديد الأمن القومى المصرى بإجبار الفلسطنيين على النزوح نحو الأراضى المصرية هروبًا من القصف العشوائى وشبح الموت جوعًا.
السؤال الآن ما هى أدوات مصر لمواجهة هذا التحدى حفاظًا على أمنها القومى؟! أكد لى الخبير الاستراتيجى اللواء طيار د. هشام الحلبى أن مجرد إجبار مئات الآلاف الفلسطينيين على الهروب نحو الحدود المصرية سواء بعملية عسكرية تخريبية أو باستمرار حرب تجويع يعد مساسًا وتهديدًا للأمن القومى المصرى وهذا يعنى فورًا تعليق معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وما يستتبع ذلك من التحرر من قيود المعاهدة بشأن مناطق “أ” و“ب” و“ج” وهذا ما لا تستطيع إسرائيل مواجهته، لذلك وحتى لا نصل إلى هذه النقطة تعتمد مصر على التفاوض كأداة رئيسة لوقف هذه الحرب.
لا مكان للتفاؤل على ما يبدو فى ظل هذه الأوضاع المشتعلة والتى تزداد تعقيدًا فى عدة جبهات وقد تصبح الحدود المصرية الفلسطينية أكثر النقاط سخونة إذا أصر الكيان الصهيونى على تنفيذ مخططاته وهذا ما يراه الخبير العسكرى والاستراتيجى الذى يؤكد أن جميع السيناريوهات مطروحة ولا يمكن استبعاد أىٌ منها لافتًا إلى أن أكثرها تفاؤلا التوصل إلى اتفاق هدنة طويل الأمد نسبيًا يتم بموجبه حل أزمة الأسرى وعودة الفلسطنيين إلى مدنهم وقراهم فى قطاع غزة وبدء تنفيذ خطة إعادة إعمار لكن ذلك لم يعنى إلا التجهيز لحرب أخرى تشتعل مجددًا فى المستقبل خاصة وأن الحكومة الإسرائيلية لن توافق أبدًا على حل الدولتين، كما أن العلاقة بين الفصائل الفلسطينينة تشوبها العديد من التعقيدات صعبة الحل.
خلاصة القول، سقوط ٣٠ ألف شهيد يزدادون كل يوم واستمرار تنامى اليمين المتطرف الإسرائيلى وتعقد مصالح الأطراف الإقليمية والدولية لا ينبىء باستقرار فى المنطقة على المدى المتوسط وأخشى ما أخشاه أن تعتمد الدول الكبرى وبعض الأنظمة استراتيجية الجوع والحرمان لفرض سياسة الأمر الواقع على الشعوب فكما يقول المثل المصرى "الجوع كافر".