دق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أجراس الإنذار في أوروبا عندما قال أمام تجمع انتخابي في العاشر من فبراير الجاري بولاية كارولاينا الجنوبية إنه قد "يشجع" روسيا على مهاجمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي لا تفي بالتزاماتها المالية في حال عودته إلى البيت الأبيض بعد انتخابات نوفمبر المقبل.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الدول الأوروبية تشعر بالقلق بالفعل بشأن احتمال ولاية ترمب الثانية، وأن تصريحاته الأخيرة عززت من مخاوف وقلق هذه الدول، وهو ما تجلى بعدها ببضعة أيام، حينما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان دير لاين، لصحيفة "فايننشيال تايمز" إن أوروبا تواجه حاليا عالما "أكثر قسوة" و"يتعين علينا نحن الأوروبيون أن ننفق المزيد، وأن يكون هذا الإنفاق بشكل أفضل".
وأشارت المجلة إلى أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تفعل أوروبا ما يكفي لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها؟ خاصة وأن الشكاوى من اعتماد الدول الأوروبية بشكل مفرط على الحماية الأمريكية وعدم رغبتها في الحفاظ على قدرات دفاعية كافية، لها تاريخ طويل، كما أن التحذير القوي الذي أطلقه الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 لم يسفر حتى الآن عن زيادة كبيرة في القوة العسكرية الأوروبية القابلة للاستخدام.
ولفتت المجلة إلى أنه بالرغم من أن أعضاء حلف شمال الأطلسي ينفقون الآن المزيد من الأموال، وأن الاتحاد الأوروبي وافق مؤخرا على تقديم 50 مليار يورو إضافية في هيئة دعم مالي لأوكرانيا، إلا أن قدرة أوروبا على الاحتفاظ بقوات كبيرة في الميدان لأكثر من بضعة أسابيع تظل محدودة للغاية، حيث إنها لا تزال تعتمد على الولايات المتحدة في بعض القدرات الحيوية.
كما أنه في ظل تحذيرات بعض المسؤولين الأوروبيين مثل وزير الدفاع الدانماركي، ترويلز لوند بولسن، من أن روسيا قد تختبر فقرة الدفاع المشترك لحلف شمال الأطلسي "في غضون ثلاث إلى خمس سنوات"، وتوقعات بعض المراقبين والدبلوماسيين الأوروبيين من "نية روسيا وقدرتها" على مهاجمة إحدى دول الناتو بحلول عام 2030، فإن بعض مؤيدي الحلف الأطلسي في أوروبا يرغبون بشدة في استمرار دور والتزامات الولايات المتحدة تجاه أمن أوروبا خاصة وأن تطوير القارة العجوز لقدراتها العسكرية بالشكل الملائم قد يستغرق 10 سنوات أو أكثر.
وتساءلت "فورين بوليسي" مجددا عما إذا كانت أوروبا قادرة في ظل هذه التهديدات على توحيد جهودها؟ مشيرة إلى أن هناك عدة نظريات حول هذا الأمر، منها: نظرية توازن القوى (أو توازن التهديد)، بمعنى أنه إذا وجد أي تهديد خارجي خطير للأمن الأوروبي مثل وجود قوة عظمى مجاورة ذات طموحات عسكرية قوية من شأنه أن يدفع معظم الدول الأوروبية إلى توحيد قوتها لردع التهديد (أو هزيمته إذا لزم الأمر). وسيصبح هذا الدافع أقوى إذا أدركت هذه الدول أنها لا تستطيع الاعتماد على أي شخص آخر (أمريكا) للحصول على الحماية.
ويرى مؤيدو هذه النظرية أن الزيادات الأخيرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي، والقرارات التي اتخذتها السويد وفنلندا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، توضح ميل الدول المهددة إلى تحقيق التوازن التام، والسعي لتعزيز قدرة أوروبا واستعدادها لتحمل قدر أكبر من مسؤولية الدفاع عن نفسها.
ولكن هناك نظرية أخرى مغايرة للنظرية السابقة، وتتحدث عن أنه انطلاقا من أن الأمن هو "صالح جماعي"، فإن الدول الأعضاء في التحالف ستميل إلى "التهرب من المسؤولية" أو الاستغلال المجاني لجهود الآخرين، على أمل أن يبذل شركاؤهم ما يكفي للحفاظ على سلامتهم وأمنهم، حتى لو بذلوا جهدا أقل.
ويساعد هذا الاتجاه في تفسير سبب ميل أقوى أعضاء التحالف إلى المساهمة بقدر غير متناسب في الجهد الجماعي، استنادا إلى أنه إذا بذلوا ما يكفي لردع أو مواجهة أي هجوم، فقد تكون مساهمات أصغر الأعضاء غير ضرورية. ومن هنا يأتي الإغراء المتمثل في بذل جهد أقل. ولكن إذا استسلم عدد كاف من الأعضاء لإغراء السماح للآخرين بتحمل العبء الأكبر، أو إذا تغلبت المصالح الأنانية الأخرى على الحاجة إلى العمل الجماعي، فإن التحالف قد لا ينتج القدرات المشتركة والاستراتيجية المنسقة التي يحتاجها ليكون آمنا.
وتؤكد هاتان النظريتان معا المعضلة التي يواجهها حلف شمال الأطلسي اليوم. ولكن الخبر الجيد هو أن الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي يتمتعون بقدرات قوة كامنة أكبر بكثير من تلك التي تتمتع بها روسيا، حيث يبلغ عدد سكان هذه الدول ثلاثة إلى أربعة أضعاف عدد سكان روسيا، واقتصاداتها مجتمعة أكبر بعشر مرات من اقتصاد روسيا.
كما أن العديد من الدول الأوروبية ما تزال تمتلك صناعات أسلحة متطورة قادرة على إنتاج أسلحة ممتازة، وكان بعضها (على سبيل المثال، ألمانيا) يمتلك قوات برية وجوية هائلة خلال المراحل الأخيرة من الحرب الباردة.. والأمر الأكثر لفتا للانتباه هو أن الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تنفق وحدها على الدفاع ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف ما تنفقه روسيا كل عام.. ولدى أوروبا أيضا ما يكفي من إمكانات القوة لردع أو هزيمة أي هجوم روسي، على افتراض أن القدرة الكامنة يتم تعبئتها وقيادتها على النحو اللائق.
أما النبأ السيئ، فهو أن الجهود المتواصلة الرامية إلى تشكيل قوة دفاع أوروبية تتمتع بقدرات مناسبة، تواجه عقبات كبيرة، من بينها أن أعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيين لا يتفقون على مستوى أو حتى هوية مشاكلهم الأمنية الرئيسية. فبالنسبة لدول البلطيق وبولندا، من الواضح أن روسيا تشكل الخطر الأكبر. أما بالنسبة لإسبانيا أو إيطاليا، فإن روسيا تمثل مشكلة بعيدة في أحسن الأحوال، وتشكل الهجرة غير الشرعية تحديا أكبر لهما، الأمر الذي يجعل مسألة تقاسم الأعباء والتخطيط العسكري أكثر تعقيدا.
وتتمثل عقبة ثانية أمام تشكيل هذه القوة الأوروبية في كيفية إقناع الأوروبيين أنفسهم بوجود مشكلة خطيرة، وأن حل هذه المشكلة لن يكون مكلفا أو صعبا للغاية، بمعنى أنه إذا حاول الأوروبيون حشد الدعم لتعزيز القدرات من خلال المبالغة في تقدير حجم القدرات العسكرية الروسية وتصوير فلاديمير بوتين باعتباره "رجلا غير مسؤول" يحمل طموحات غير محدودة، فإن التحدي الذي تواجهه أوروبا في هذه الحالة قد يبدو مستحيلا، وسيتنامى إغراء اللجوء إلى العم سام. كما أنه إذا كان الحديث عن أن قوة روسيا وطموحاتها أكثر تواضعا، وبالتالي يمكن التحكم فيها، فسيكون من الصعب إقناع الجماهير الأوروبية بتقديم تضحيات كبيرة. لذا، ومن أجل مواجهة هذه العقبة، يتعين على الأوروبيين أن يؤمنوا بأن روسيا "دولة خطيرة"، وأنهم يتمتعون بالقدرة على التعامل معها حتى لو لم تبذل الولايات المتحدة أي جهد يذكر.
ويشكل الدور الغامض الذي تلعبه الأسلحة النووية العقبة الثالثة أمام تشكيل قوة الدفاع الأوروبية، حيث إذا كان الاعتقاد السائد بأن الأسلحة النووية تردع أعمال العدوان واسعة النطاق، فمن المرجح الميل إلى أن القوات النووية البريطانية والفرنسية و"المظلة النووية" الأمريكية ستحمي حلف شمال الأطلسي من أي هجوم روسي تحت أي ظرف من الظروف تقريبا، وإذا كان الأمر كذلك، فستكون هناك حاجة أقل لبناء مجموعة كبيرة ومكلفة من القوات التقليدية الأوروبية.
وتتمثل العقبة الرابعة في أن الدول الأوروبية ما تزال تفضل الاستثمار في صناعاتها الدفاعية وقواتها المسلحة منفردة، بدلا من التعاون لتوحيد الأسلحة وتطوير استراتيجية وخطط دفاعية مشتركة، فوفقا لتقرير صدر عام 2023 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإنه على الرغم من ارتفاع إجمالي الإنفاق الدفاعي الأوروبي بشكل كبير منذ استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014، إلا أن النسبة المخصصة لجهود المشتريات التعاونية انخفضت بشكل مطرد حتى عام 2021 ولم تقترب أبدا من هدف 35 بالمائة التي وضعها الاتحاد الأوروبي، كما يتردد أن دول الاتحاد الأوروبي تمتلك حوالي 178 نظاما مختلفا للأسلحة، وهو ما يشكل إهدارا للميزة الهائلة الكامنة في الموارد التي تتمتع بها أوروبا مقارنة بمنافسيها المحتملين.
ويعد تناقض أمريكا بشأن تشجيع أوروبا على الاعتماد على نفسها العقبة الأخيرة أمام تشكيل هذه القوة، حيث أرادت الولايات المتحدة عموما أن يكون شركاؤها الأوروبيون أقوياء عسكريا، ولكن ليس أقوياء للغاية، ومتحدين سياسيا ولكن ليس بشكل متماسك للغاية. ويعود ذلك –وفقا لفورين بوليسي- لسعي واشنطن الدائم إلى تعظيم نفوذها على جميع التحالفات والشركاء، حيث تريد واشنطن أن يكون بقية أعضاء حلف شمال الأطلسي قويا بما يكفي ليكون مفيدا، ولكن في نفس الوقت متوافقا تماما مع رغبات الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي سيصعب تحقيقه إذا أصبحت هذه الدول أقوى وبدأت في التحدث بصوت واحد.
وأخيرا، يجب إدراك أن الدافع الأولي للتكامل الاقتصادي الأوروبي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي كان مدفوعا جزئيا بالمخاوف الأوروبية من أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها في نهاية المطاف من القارة، وأن قدرتها على مواجهة حلف وارسو ستتعزز من خلال إنشاء نظام اقتصادي أوروبي كبير وموحد، ولكن الدافع الأمني انحسر وراء التكامل الأوروبي بمجرد أن أصبح واضحا أن العم سام (أمريكا) سيبقى في القارة، ولكن الشكوك المتزايدة حول التزام الولايات المتحدة من شأنها أن تعطي الأوروبيين حافزا كافيا لتعبئة قدراتهم الاقتصادية المتفوقة وإمكاناتهم العسكرية الكامنة على نحو أكثر فعالية، انطلاقا من المصلحة الذاتية البحتة.
وترى المجلة الأمريكية - في هذا الصدد - أنه يجب على المسؤولين الأمريكيين تشجيع هذا التطور، بغض النظر عمن سيصل إلى البيت الأبيض العام المقبل، حيث إن عملية إعادة الأمن الأوروبي إلى الأوروبيين لابد أن تتم تدريجيا، بحيث يتم تحقيق التوازن بين تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، والتغلب على معضلات العمل الجماعي الأوروبي التي سوف تنشأ بشكل حتمي في المراحل الأولى لهذا العمل.