يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت، في كتابه «مبادئ الفلسفة» متحدثًا عن قومه الفرنسيين وسائر الغربيين: «إن الفلسفة هي وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أعظم نعمة يُنـعم الله بها على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين».
وإذا كان ديكارت يقول - بوصفه فرنسيًا - «إن الفلسفة هى وحدها التى تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين»، فإن ديكارت لو عاد مرة أخرى للحياة لقال إننى أعني بالأقوام المتوحشين والهمجيين أقطار منطقة الشرق الأوسط، خاصةً مصر التى كانت تعلو أرجاءها أصوات تنادي بهدم الأهرامات والآثار الفرعونية المصرية القديمة، وفي مقدمتها تمثال أبو الهول، وكذلك تقييد حرية المرأة، وختان الإناث، وإباحة الزواج من القاصرات، وفرض الجزية على المواطنين المسيحيين... إلخ.
لو عاد ديكارت مرة أخرى للحياة لقال إننى أعني أقطار منطقة الشرق الأوسط، خاصةً مصر التى وإن كانت تلك الأصوات قد خفتت قليلًا، فليس اقتناعًا وإنما توجسًا وترددًا إلى حين، وخاصة أن أصحاب هذه الأصوات ينخرطون اليوم في أحزاب سياسية تسمح الدولة بقيامها، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على مدى اضطراب السياسات العامة الموضوعة وتخبطها!!
إذا كان ديكارت قد قال في كتابه «مبادئ الفلسفة»: «إن أعظم نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد، هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين».. فإن علينا أن نقول من واقع المشهد الحالي في منطقتنا العربية: «إن أشد نقمة يبتلي الله بها بلدًا من البلدان، هي أن يسلط عليهم فئة من غلاة المتشددين المتعصبين المتاجرين باسم الدين، من أجل تحقيق مآرب سياسية».
التفكير النقدي هو الذى يمنحنا القدرة على النظر إلى الأشياء وكأننا نراها لأول مرة، فنصاب بالدهشة جراء ذلك، ونرى الأشياء وكأننا لم نرها من قبل، فالنقد يخلع عن وجه الأشياء قناعها العادي. وعن طريق النقد نحن لا نبتعد عن الأشياء المعتادة فى حياتنا اليومية، بل عن تفسيراتها وقيمتها المألوفة. ونحن لا نفعل هذا لكى نشذ عن الآخرين، أو لكى يقال إننا نفكر بخلاف بقية الناس، بل لأن وجهًا جديدًا للأشياء قد تكشف لنا فجأة، وجهًا مختلفًا عن ذلك الذى تعودنا عليه وسلمنا به فى لقائنا معه كل يوم.
النقد عندي هو جوهر الفلسفة، والنقد كما أفهمه لا يعني أبدًا التطاول أو الشتم، أو التركيز على الجوانب السلبية وحدها، إنما يعني الفحص العقلي لكل ما يُعْرَض علينا من أقوال وأفعال لبيان مواطن القوة وجوانب الضعف.
وإذا كان العلم هو سبيل التقدم، فإن النقد هو سبيل التحضر والرقي.. لأن المجتمعات المتخلفة لا تعرف النقد، ولا تعرف معناه وبالتالي لا تمارسه، المجتمعات المتخلفة لا تعرف سوى أمرين:
1- إما المدح السخيف المفضوح.
2- أو النفاق الممجوج الرذيل.
نحن لا نعرف كيف ننقد نقدًا عقليًا، وإنما نجيد المدح أو السب والشتم. إن النقد الذي أقصده أبعد ما يكون عن هذين الأمرين. النقد الذي أعنيه والذي هو جوهر الفلسفة هو التحليل العقلي للأقوال والأفعال للكشف عن محاسنها ومثالبها، ميزاتها ونقائصها، إذن الميزات والمحاسن تأتي أولًا قبل العيوب والنقائص.
إننا إذا اعتمدنا على التفكير النقدي جاءت أفكارنا سوية ومعتدلة، ذلك لأن الأفكار تختلف باختلاف المجتمعات، إنها وليدة ظروف تاريخية واجتماعية وثقافية معينة، ومن ثمَّ فهى ليست مقدسة؛ وإن كان يتم الترويج لها في معظم الأحيان على أنها كذلك!! كما يتكشف مدى هيمنة هذه الأفكار وتحكمها في سلوك أفراد المجتمع، وتوجيههم وجهة معينة دون غيرها. ومن الضروري البحث عن «الأفكار الحاكمة» في مجتمعاتنا، لإعادة فحصها ونقدها، للإبقاء على ما هو صحيح منها، واستبعاد ما هو فاسد. يجب ألا نتمسك بأفكار عقيمة ظنًّا منا أنها سوف تُسهم يومًا في تقدمنا ورقينا، لأننا في هذه الحالة سوف نقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه تلك الدجاجة التي رقدت على بيض مسلوق ظنًّا منها أنه سوف يفقس يومًا!!