السبت 26 أبريل 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

محمد الماغوط: كاسك يا وطن

الشاعر الكبير محمد
الشاعر الكبير "محمد الماغوط"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إشراف: سامح قاسم

حاملًا سيجارته بين شفتيه، شاردًا بنظرة ثاقبة من خلف زجاج نظارته السميكة، مرتديًا "طاقيته" الشامية، متنقلا بين الشعر والمسرح والسينما والدارما التليفزيونية والمقالات النثرية، نجح الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط في أن يحفر صورته الذهنية التي لا تنسى على جدران الإبداع العربي من أقصاه إلى أقصاه.
فقد ظهر الماغوط خلال الاثنين والسبعين ربيعًا التي قضاها على ظهر الأرض كالأساطير وخوارق العادات.. وحل الشاعر السوري الكبير على عالم الشعر العربي فقلب أوضاعه رأسا على عقب.
ثم ارتحل إلى عالم المسرح ليضع بصمته التي لا تنسى عبر أعمال عدة قاوم خلالها كل أشكال القهر والظلم والاضطهاد، وكانت مسرحية "كاسك يا وطن" التي تقدم إلى الآن في أكثر من دولة عربية ذروة إبداعه.

وهو ما فعله الماغوط في السينما من خلال فيلم "الحدود" لدريد لحام وما استشرفه الفيلم من واقع عربي مؤلم ورصده عبر مشاهد لن تنساها ذاكرة المشاهد العربي.
وإذا كنا في حاجة إلى تلخيص حياة الماغوط الأدبية لن نحتاج إلى أكثر من مقولته الشهيرة "لكي تكون شاعرًا عظيمًا يجب أن تكون صادقا، ولكي تكون صادقا يجب أن تكون حرا، ولكي تكون حرا يجب أن تعيش، ولكي تعيش يجب أن تخرس"، حيث لخص الماغوط بهذه العبارة حياته كاملة لأن المتأمل في إنتاجه الأدبي من خلال عناوينه ومحتواه يجد فارقًا شاسعًا بين ما يقوله مضمون الأعمال في جوهرها وبين العناوين العريضة لها.
فصاحب ديوان "الفرح ليس مهنتى" نجده من أكثر الأدباء استخداما للكوميديا والسخرية في أعماله الأدبية منذ بداية مسيرته الإبداعية حتى نهاية الخط، فبالسخرية بدأ مشواره وبها ختمه.
ورغم إعلانه أن الفرح ليس مهنته، وأن غرفة نومه بملايين الجدران، فإنه بدا بارعًا في اقتناص السعادة والاحتفاظ بها زمنًا طويلًا، لكنها سعادة الماغوط المستولدة من رحم القهر والسجن والخيبة والتشرد وغدر الأصدقاء ورحيل الأحبة.. سجنه المبكر قبل قرابة نصف قرن، ظل نبعًا لذكريات.. تتحول المرارة فيها إلى سخرية حينًا وحكمة حينًا.. وإضاءات يطل من خلالها على نفسه أحيانًا كثيرة.
فقد عاش الماغوط كما قيل عنه مع الكوابيس، حتى صار سيد كوابيسه وأحزانه، وصار الخوف في لغته نقمة على الفساد والبؤس الإنساني بكل معانيه وأشكاله.. لغته مشتعلة دائمًا تمسك بقارئها، تلسعه كلماتها كألسنة النيران، ترجّهُ بقوة، فيقف قارئ الماغوط أمام ذاته، ناقدًا، باكيًا، ضاحكًا، مسكونًا بالقلق والأسئلة.

فهو القائل

لو أن أحدًا من القراء أو النقاد أو الناشرين
أدرك مدى الشر الذي يعتمل في صدري
ضد كل ما هو مشرق وبريء وجميل
لما قرؤوا أو نشروا أو رددوا سطرًا أو كلمة مما أكتب.
***
بي شوق دفين كالينابيع والمياه الجوفية
لخيانة أي حبيب أو قريب أو صديق أو جار أو مبدأ أو تنظيم
للارتباط دون تردد بعاهرة، بدولة أجنبية، مركز تجسس، رقيق،
دعارة، مخدرات، عصابة للتنكيل بكل ما هو حر ووطني ومقدام!
ورغم ذلك يظل الماغوط رمزًا لأدب المقاومة والثورة على الأوضاع المقلوبة حيث عبر عن نفسه خير تعبير من خلال قصيدته الشهيرة "حزن في ضوء القمر" التي وصف خلالها دمشق العاصمة السورية بالوصف الشهير "عربة السبايا الوردية" والتي قال فيها:
لمشاهدة الرابط اضغط هنااااا

أيها الربيعُ المقبلُ من عينيها
أيها الكناري المسافرُ في ضوء القمر
خذني إليها
قصيدةَ غرامٍ أو طعنةَ خنجر
فأنا متشرّد وجريح
أحبُّ المطر وأنين الأمواج البعيدة
من أعماق النوم أستيقظ
لأفكر بركبة امرأة شهيةٍ رأيتها ذات يوم
لأعاقرَ الخمرة وأقرضَ الشعر
قل لحبيبتي ليلى
ذاتِ الفم السكران والقدمين الحريريتين
أنني مريضٌ ومشتاقٌ إليها
انني ألمح آثار أقدام على قلبي.
دمشقُ يا عربةَ السبايا الوردية
وأنا راقدٌ في غرفتي
أكتبُ وأحلم وأرنو إلى المارة
من قلب السماء العالية
أسمع وجيب لحمك العاري
عشرون عامًا ونحن ندقُّ أبوابك الصلدة
والمطر يتساقط على ثيابنا وأطفالنا
ووجوهِنا المختنقةِ بالسعال الجارح
تبدو حزينةً كالوداع صفراءَ كالسلّ
ورياحُ البراري الموحشة
تنقلُ نواحنا
إلى الأزقة وباعةِ الخبزِ والجواسيس
ونحن نعدو كالخيولِ الوحشية على صفحاتِ التاريخ
نبكي ونرتجف
وخلف أقدامنا المعقوفة
تمضي الرياحُ والسنابلُ البرتقالية..
وافترقنا
وفي عينيكِ الباردتين
تنوح عاصفةٌ من النجوم المهرولة
أيتها العشيقةُ المتغضّنة
ذات الجسد المغطَّى بالسعال والجواهر
أنتِ لي
هذا الحنينُ لك يا حقودة!



بداية قاسية

ولد الماغوط عام 1934 في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة السورية.
ولد في بيئة قاسية لأسرة معدمة لا تجد قوت يومها لأب يدعى أحمد عيسى وأم تسمى ناهدة الماغوط، حيث إن الأب والأم من نفس العائلة، وكان الماغوط الابن الأكبر في عائلة تضم ستة إخوة.
خرج في السابعة من عمره لأول مرة ليرعى الغنم، وعمل أجيرًا في أراضي الآخرين، وكان يقول: «كان أبي لا يحبني كثيرًا، يضربني على قفاي كالجارية.. ويشتمني في السوق».
لم يدخل المدرسة وتعلم في "الكتاب"، بدأ التدخين منذ التاسعة من عمره، حتى إنه كان يلتقط أعقاب السجائر ويدخنها، وعكس هذا شيئًا من روح التمرد لديه، هذه الروح التي اصطدمت بالسلطة الأبوية التي يملكها أبوه الذي حاول توجيه ابنه وكبح جماحه ولكن دون جدوى.
انتسب الماغوطي بعد ذلك إلى المدرسة الزراعية في سلمية حيث أتم فيها دراسته الإعدادية، وانتقل بعدها إلى دمشق ليدرس في الثانوية الزراعية في ثانوية خرابو بالغوطة، ويذكر أن والده أرسل رسالة إلى الثانوية يطلب منهم الرأفة بابنه فقاموا بتعليقها على أحد جدران المدرسة مما جعله أضحوكة زملائه؛ الأمر الذي دفعه إلى الهروب من المدرسة والعودة إلى سلمية، مشيا على الأقدام وكانت المسافة تبعد نحو خمسة عشر كيلومترًا، ولم يكن يعرف أحدًا وقتئذ.

اغتيال.. فاعتقال

ورغم أن حياة الماغوط التعليمية بدت محدودة، فإنه أثراها عندما تعرف على سليمان عواد الذي يعتبره معلمه الأول، وقتذاك وكان ينشر في «الآداب» و«الأديب» وهو أول من عرفه على الشعر الحديث وقرأ له رامبو مترجمًا، ويعتبره من أوائل من كتبوا قصيدة النثر.
وفي هذه الفترة قام الماغوط بالدخول إلى حلبة السياسة مبكرًا بالاشتراك في الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى دون أن يقرأ مبادئه، وكان في تلك الفترة حزبان كبيران هما الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث، وهو يذكر أن حزب البعث كان في حارة بعيدة في حين كان القومي بجانب بيته وفيه مدفأة أغرته بالدفء فدخل إليه وانضم إلى صفوفه، لم يدم انتماؤه الحزبي طويلًا وقد سحب عضويتها في الستينيات بعد أن سجن ولوحق بسبب انتمائه.
بدأت بوادر موهبته الشعرية بالتفتح فنشر قصيدة بعنوان "غادة يافا" في مجلة الآداب البيروتية، وبعدها قام الماغوط بخدمته العسكرية في الجيش وكانت أوائل قصائده النثرية قصيدة "لاجئة بين الرمال" التي نُشِرَت في مجلة الجندي، وبعد إنهاء خدمته العسكرية استقر الماغوط في السلمية، إلى أن تلقى صدمة قلبت حياته رأسًا على عقب تمثلت في اغتيال عدنان المالكي واتهمت أجهزة الأمن آنذاك الحزب الذي ينتمي إليه الماغوط باغتياله، وتبع ذلك حملة اعتقالات راح ضحيتها الماغوط نفسه.
وذلك بعد أن لوحق أعضاء الحزب، وتم حبس الماغوط في سجن المزة، حيث بدأت حياة الماغوط الأدبية الحقيقية، خلف القضبان، عندما تعرف في أثناء سجنه على الشاعر على أحمد سعيد إسبر الملقب بأدونيس الذي كان في الزنزانة المجاورة وكان هذا في عام 1955.
ورغم أن المدة التي قضاها الماغوط، لم تتجاوز الأشهر الستة أو السبعة إلا أن هذه الشهور طغت على حياته كلها وظلت كالشبح الذي يطارده أينما حل أو ارتحل حتى أن شبح الاعتقال والحبس كان يقفز إلى مخيلته كلما طرق أحد باب بيته.
وعن تجربته الأدبية في السجن يقول الماغوط: "كنت أدخن.. الطاطلي سرت والبافرا وعلى ورق البافرا كتبت مذكراتي في السجن وهرّبتها في ثيابي الداخلية، واكتشفت لاحقًا أن ما كتبته كان شعرًا، بداياتي الأدبية الحقيقية، كانت في السجن. معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها، وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرأة، الحرية، الأفق".
وكانت البداية الفعلية من قصيدة "القتل" التي كتبها الماغوط في السجن ونشرها كما هي دون تغيير.

الحب الوحيد..

ولم تنتهِ الفترة الصعبة من حياة الماغوط سريعا بل استمرت في فترة الوحدة بين سوريا ومصر حيث كان الماغوط مطلوبًا في دمشق، فقرر الهرب إلى بيروت في أواخر الخمسينيات، ودخل لبنان بطريقة غير شرعية سيرًا على الأقدام، لتبدأ الفترة الأهم في حياة الماغوط وهي الفترة التي تعرف خلالها على جماعة "شعر" والتي تعرف خلالها أيضا على حب حياته الشاعرة الكبيرة "سنية صالح" شقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس التي تزوجها في ما بعد.
وبالفعل انضمّ الماغوط إلى جماعة مجلة "شعر" حيث تعرف على الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه في مجلة «شعر» بعد أن قدمه أدونيس للمجموعة، وتعرّف في بيت أدونيس على الشاعرة سنية صالح، وكان التعارف سببه تنافس على جائزة جريدة «النهار» لأحسن قصيدة نثر.
وعندما سجن الماغوط لمدة ثلاثة أشهر في عام 1961 كانت سنية صالح وصديقه الحميم زكريا تامر يزودانه بالكتب، وذلك بعد أن جاءت سنية للدراسة في دمشق وساعدها في استكمال أوراق الجامعة.
حتى عندما ظل الماغوط فترة من حياته مطاردًا، واختبأ في غرفة "بدروم" بحي عين الكرش وكانت غرفة نصفية، وكان عليه أن ينحني كي لا يصطدم رأسه بالسقف كانت سنية صالح وكذلك زكريا تامر يجلبان له الكتب إلى مخبئه هذا أيضًا.. وفي هذه الغرفة كتب "العصفور الأحدب" حيث كان العصفور يرمز للحرية، أما الأحدب فلأنه يصف حالته في تلك الغرفة.
يقول الماغوط: "حين كتبت مسرحية "العصفور الأحدب" كانت على أساس أنها قصيدة طويلة، لكن حين قرأتها سنية صالح، قالت هذه مسرحية، فسألتها ما هي شروط المسرحية، قالت أن تكون على فصول، قلت: كم فصلًا أحتاج. أجابت: أربعة، فجلست وكتبت الفصل الرابع وأنهيتها. كل ما أكتبه شعر. حتى لو كان نصًا مسرحيًا أو مقالًا أو زاوية صحفية.. أرغب أن ألغي المسافة بين ما هو شعر وما ليس شعرًا.. الموسيقى في أشعاري موجودة في متن النص..".
وعن زوجته نجد الماغوط يعترف قائلا: "سنية هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفًا صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة وأكبر من كون، إنها شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم جدًا، كما أنها لم تأخذ حقها نقديًّا".

كمال خير بك

ربطته والمناضل والشاعر كمال خير بك صداقة وثيقة وتشابها في حب كسر المألوف والنزوع إلى القصيدة النثرية ثائرين على القالب النمطي والمعروف من الشعر.
ويعتبر خير بك الماغوط الشاعر العربي الأول الذي نظم القصيدة النثرية سابقا أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال.
كما نشأت في بيروت بين الماغوط والشاعر بدر شاكر السياب صداقة حميمة، باعتباره صديق التسكّع على أرصفة بيروت، وكان السياب برأي الماغوط بسيطًا وصادقًا ويشبهه في جانب من سيرته.

شعر عالمي

ويذكر الماغوط أن أول من اكتشفه كشاعر كان أدونيس وذلك في إحدى جلسات مجلة «شعر» فقرأ قصيدته «القتل» بحضور يوسف الخال، وأنسي الحاج، والرحابنة، دون أن يعلن عن اسمه، فتركهم يتخبطون (بودلير؟.. رامبو؟) إلى أن أشار أدونيس إلى الماغوط، وقال «هذا هو الشاعر».
وذات مرة طلب يوسف الخال قصيدة من الماغوط فقال له: «غدًا سأحضرها». وفي الليلة ذاتها كتب «حزن في ضوء القمر» وأحضرها في اليوم التالي.

انتزاع وتتويج

كان أعضاء جماعة "شعر" في ستينيات القرن الماضي يتحاورون ويكتبون وينظرون حول القصيدة: ماهيتها، بنيتها، ما هو الشكل الذي يجب أن تكون عليه الكلمات لتصير قصيدة؟.. متى يمكن أن نقول عن مقروء ما إنه شعر، ومتى نقول إنه ليس شعرًا؟.. وماذا على الشعر أن يقول؟.. كانوا يصوغون ذوقًا جديدًا ورؤية جديدة للشعر بخاصة، وللحياة بعامة. ويبتكرون قوانين جديدة للكتابة. قوانين تسمح للفكر أن يسيل بحرية، وللقصيدة أن ترقص بحرية. فأطاحوا بالبحور الشعرية التي كان الشعر لمّا يزل يرتسم عليها منذ نشأته الأولى وحتى منتصف القرن العشرين. واكتفوا بأن تسير القصيدة على التفعيلة.
ويعتبر الماغوط أن "قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائمًا على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجهًا لوجه أمام التجربة، وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور؛ ودوران على القوافي"، ويعتبر أنها جاءت كضرورة صحية لإلغاء ديكتاتورية الشعر الكلاسيكي، إنها أشبه بعملية بتر لكل الأطراف والزوائد المعيقة لاندفاع التجربة، كي تتخذ إطارها الواضح والمختلف. وهي تسعى في تجاربها الأصيلة كي تصل إلى الصدارة دون تزكية من رأسماليي الأوزان والقوافي، باعتبارها رؤية جديدة للعالم وسط زحام الاعتبارات الشاحبة وتقاليد الطرب ورقص الكلمات".


ولنا أن نتأكد من نجاحاته ومما يقول، حين نعرف أن عتاة الشعر التقليدي والأوزان، وحين يواصلون هجومهم على قصيدة النثر ويطلقون عليها من الأسماء ما يتوقعون أنه يُخرجها من فضاء الشعر، مثل: نثيرة، نثر شعري،... إلخ، فإنهم، جميعًا وبلا استثناء، يستثنون محمد الماغوط، وإذ يريدون أن يتسامحوا حيالها ولو قليلًا، فإنهم يشترطون كتابتها مثل محمد الماغوط، نافين عن الآخرين إمكانية كتابتها، ليس لصعوبتها، ولكن كما يرون، لأنها ليست شعرًا، فيما الماغوط، كتبها بوصفها شعرًا. وهذا استثناء لا يقاس عليه الآخرون، وثمة من ينكر على أنسي الحاج ذاته شعريته، فقط لأنه يكتب قصيدة النثر.
لقد انتزع الماغوط اعتراف الجميع حتى خصومه، وذلك لقوة موهبته وإصراره وعناده، باتجاه آخر، فإن معظم شعراء قصيدة النثر خرجوا من غرفة محمد الماغوط ذات الجدران الملايين، وبذلك تم تتويجه كمؤسس لا ينازع لهذه المملكة الشعبية الرحبة والديمقراطية: قصيدة النثر، دون أن ننسى أنسي الحاج، إذ إنها وإن كتبت زمنيًّا قبله، فإنه جعلها قصيدة متكاملة: لغة خاصة، بل استخدام خاص لهذه اللغة، يبدو أنه مختلف حتى عن استخدامها في شعر التفعيلة، وأنزلها من سماء الحنين الرومانسي والروحانيات والوجوديات إلى أرض الحفاة والعراة والجائعين والمحطمين، عبر تهكم عال حتى من القضايا التي يعتبرها كبيرة، كالوطن:
"آه
لو يتم تبادل الأوطان
كالراقصات في الملاهي"
وذلك عبر علاقات فريدة بين الكلمة والشيء، ليست بعيدة وليست قريبة، ليست مألوفة وليست غريبة، إنها ما يقال عنها نقديًا: مدهشة وصادمة.
"... فأنا قطعًا
ما كنت مربوطًا إلى رحمي بحبل سرة
بل بحبل مشنقة"
وكذلك:
"فليذهب القادة إلى الحروب
والعشاق إلى الغابات
والعلماء إلى المختبرات
أما أنا
فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق... لأعود كما كنت
حاجبًا قديمًا على باب الحزن".
وكذلك:
"اهربي أيتها الغيوم
فأرصفة الوطن
لم تعد جديرة حتى بالوحل"



الورقة الأخيرة

في السبعينيات عمل الماغوط في دمشق رئيسًا لتحرير مجلة «الشرطة» حيث نشر كثيرًا من المقالات الناقدة في صفحة خاصة من المجلة تحت عنوان "الورقة الأخيرة"، وفي تلك الفترة بحث الماغوط عن وسائل أخرى للتعبير من أشكال الكتابة تكون أوضح أو أكثر حدة، فكانت مسرحياته المتوالية "ضيعة تشرين و"غربة"، وفيها أراد الماغوط مخاطبة العامة ببساطة دون تعقيد، وهو واحد من الكبار الذين ساهموا في تحديد هوية وطبيعة وتوجه جريدة تشرين السورية في نشأتها وصدورها وتطورها في منتصف السبعينيات، حين تناوب مع الكاتب القاص زكريا تامر على كتابة زاوية يومية، تعادل في مواقفها صحيفة كاملة في عام 1975 وما بعد، وكذلك الحال حين انتقل ليكتب «أليس في بلاد العجائب» في مجلة المستقبل الأسبوعية، وكان لمشاركاته دور كبير في انتشار «المستقبل» على نحو بارز وشائع في سوريا.



مأساة جديدة

ولم يكن عقد الثمانينيات بالنسبة للماغوط أفضل من سابقه فقد سافر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وأقام في إمارة الشارقة وعمل في جريدة الخليج ليؤسس مع يوسف عيدابي القسم الثقافي في الجريدة وكانت فترة صعبة وقاسية، بدأت بوفاة شقيقته ليلى أثر نفاس بعد الولادة عام 1984، ثم وفاة والده أحمد عيسى عام1985 بسبب توقف القلب، وكانت أصعب ضربة تلقاها هي وفاة زوجته في نفس العام بعد صراع طويل معه ومع السرطان وهو نفس المرض الذي أودى بحياة والدتها وبنفس العمر وكانت نفقة العلاج على حساب القصر الجمهوري في مشفى بضواحي باريس حيث أمضت عشرة أشهر للعلاج من المرض الذي أودى بحياتها، ثم كانت وفاة أمه ناهدة عام1987 بنزيف حاد في المخ.
وقد ظل الماغوط مخلصًا لذكرى زوجته حتى آخر حياته، ملتزمًا تجاه ابنتيه، حيث أصبحت «شام» طبيبة وتزوجت لتستقر في أميركا، أمريكاولم تاتي لزيارة سوريا إلا لحضور جنازته، أما «سلافة» فقد درست الفن التشكيلي في جامعة دمشق، ثم تزوجت واستقرت في دمشق، وقد تركت هذه المآسي المتلاحقة الأثر الشديد على نفسه وأعماله وكتاباته.



مقهى (أبو شفيق)

كان مقهى (أبو شفيق) الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه الماغوط ليقيم علاقته السرية والمشبوهة مع نهر بردى ومع السوريين، كان قدومه إليه واجبًا يوميًا لا يجرؤ على التقاعس عن ممارسته: الاستيقاظ فجرًا، ثم المشي على القدمين لمسافة خمسة كيلو مترات للوصول إليه، إلى طاولته الثابتة التي يجرى بردى تحتها، وإلى صحفه، وأوراقه الكثيرة والباذخة، وقلمه القاطع، ليكتب مسرحيات: "ضيعة تشرين"، "غربة"، "كاسك يا وطن"، و"شقائق النعمان"،والتي تفوق خلالها على مسرح سعد الله ونوس،إذ اختار وسائل أخرى في التحريض، هو الذي حمل اليأس حتى الرمق الأخير، والضحكة عنده دائمًا محاصرة بغصّة، المرارة هي ذروة المشهد الكوميدي، هكذا هو المهرج الحزين، يضحكنا فنبكي "فالطير يرقص مذبوحًا من الألم".
وكذلك سيناريوهات أفلام: "الحدود"، "التقرير"، "المسافر"، وبعض القصائد؟ تلك المسرحيات والأفلام التي أثرت، ليس بالمزاج السوري فحسب، بل بالوضع العربي عمومًا، وقد عبر من خلالها عن غربته وتمسكه حتى النهاية بالسهل الممتنع كأسلوب فني عالي النبرة لمخاطبة الجمهور كما كتب نصوصه الأخيرة بنفس شعري مختلف استطاع من خلاله أن يلامس وجدان قارئه فكان سياف الزهور 2001 وشرق عدن.. غرب الله 2005 وأخيرا البدوي الأحمر 2006.
وقد قام الفنان دريد لحام بتمثيلها جميعًا، الأمر الذي أتاح للشعوب العربية مشاهدتها والتأثر بها، وقد صنعت هذه المسرحيات ما سمي "مسرح محمد الماغوط"، وتلك الأفلام، على قلتها عدديًا، ما سمي، أيضًا، سينما محمد الماغوط، وذلك كما صنع شعره، قبل ذلك، ما سمي (شعر محمد الماغوط)، وذلك لتلك الفرادة التي ظهرت بها أعماله جميعها.



رواية وحيدة

أما تجربة الماغوط في الرواية فقد كانت وحيدة وظهرت في رواية «الأرجوحة» وكانت عبارة عن سيرة ذاتية. وهي خير دليل على مرحلة الاعتقالات والتخفي والملاحقة التي شهدها الماغوط. فما شخصية «فهد التنبل» إلا الماغوط نفسه، و«غيمة» المرأة التي أحبها بجنون هي سنية صالح التي أصبحت زوجته لاحقًا.



وطن وعاهرة

كان الوطن تيمة أساسية في مشروع الماغوط الشعري وكثيرا ما كان ينتابه نوبات غضب مما يحدث على أرض الواقع من أمور لا يرضى عنها فإذا به يجلده بسياط الشعر مفضلا العاهرة عليه:

أيها الوطن الغارق في التفاهات
لن أنقذك مهما كان عندي من وسائل
فلطالما أسأتَ إليّ
من الرأس حتى أسفل القدم
حرمتني رؤية النجوم
تأمل الأفق
انتظار الفجر
رائحة الخبز
رسائل الحب
هدايا الأعياد
وحتى النوم على الرصيف
كنت تدفعني دفعًا
بجبالك وسهولك وثرواتك
للجنون
للمصحات العقلية
ومعسكرات الإبادة
وأنا أسترضيك
وأستعطفك
والآن تريد أن أنظف ما تحتك وفوقك من خراب
وقد حذرتك مرارًا
بأن الزمن ليس ساعة حول معصمك
أو قبعة على رأسك
أو سوطًا بيدك
أو حاجبًا أمام مكتبك
عفوًا
ليس عندي وقت أضيعه فعندي موعد هام
مع عاهرة!
ومصابة بالإيدز والزهايمر.
فعمت بغيظك...



أعماله

1 ) حزن في ضوء القمر، شعر، 1959.
2) غرفة بملايين الجدران، شعر، 1960.
3) الفرح ليس مهنتي، شعر، 1970.
4) العصفور الأحدب، مسرحية، 1960.
5) المهرج، مسرحية، 1960.
6) الأرجوحة، رواية، 1974.
7) ضيعة تشرين، مسرحية، 1973.
8) غربة، مسرحية، 1974.
9) كاسك يا وطن، مسرحية، 1979.
10) حكايا الليل، مسلسل تليفزيوني، إنتاج التليفزيون السوري.
11) وين الغلط، مسلسل تليفزيوني، إنتاج التليفزيون السوري.
12) الحدود، فيلم سينمائي، إنتاج المؤسسة العامة للسينما.
13) التقرير، فيلم سينمائي، إنتاج المؤسسة العامة للسينما.
14) شقائق النعمان، مسرحية، 1986.
15) وادي المسك، مسلسل تليفزيوني، إنتاج التليفزيون السوري.
16) سأخون وطني، مقالات نقدية، 1987.
17) خارج السرب، مسرحية، 1999.
18) أعمال محمد الماغوط، شعر – مسرح – رواية، 1998.
19) سيّاف الزهور، نصوص حرة، 2001.
20) المسافر، فيلم سينمائي، قيد الظهور.
21) شرق عدن غرب الله، نصوص جديدة، 2005.
22) البدوي الأحمر، نصوص جديدة، 2006.

الجوائز التي حصل عليها:
1) جائزة «احتضار» عام 1958
2) جائزة جريدة النهار اللبنانية لقصيدة النثر عن ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» عام 1961.
3) جائزة «سعيد عقل».
4) صدور مرسوم بمنح «وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة» للشاعر محمد الماغوط من سيادة رئيس الجمهورية بشار الأسد.
5) جائزة «سلطان بن على العويس الثقافية للشعر» البالغة مئة وعشرين ألف دولار عام 2005.



رحيل

وقد رحل محمد الماغوط يوم 3 أبريل عام 2006 عن عمر يناهز 72 عامًا، وذلك بعد صراع امتد أكثر من عشر سنوات مع الأدوية والأمراض عندما توقف قلبه عن الخفقان وهو يجري مكالمة هاتفية.