بوسع الإنسان أن يصنع جنته على الأرض رغم كل هذه الحروب ومشاهد القتل والدمار واستباحة الدماء البشرية، فقط إذا صدق فى إيمانه برسالته وهى إنجاز عمله بحب وتسامح القلب وموضوعية وحياد العقل بما يساعد على إخراج هذا العمل أيًا ما كان فى أقرب صورة للجمال الكامل، فإذا أحاط هذا الجمال حياتنا نجحنا كبشر فى مقاومة الشر الذى بداخلنا والأنانية التى تسكننا ومن ثم تقل مشاهد الدمار ويتضاءل حجم الدماء المسفوكة.
وسط حرب غزة الدامية، وأوضاعنا التى تكاد تغتال الأمل فينا، كانت ثلاثة أيام عشتها فى جنة صنعها مخلصون صادقون داخل المركز الكاثوليكى المصرى للسينما، تعلمت فيها أن العمل المؤسسى الملتزم بالمعايير والقوانين المتفق عليها والتى يكفل الحرية لكل أعضائه فى أداء عملهم وإبداء آرائهم وطرح وجهات نظرهم باختلاف خبراتهم ومعارفهم ومشاربهم وانتماءاتهم الاجتماعية والمهنية هو الضامن الوحيد لتتحول هذه المؤسسة إلى خلية نحل هى بالنسبة لكل من ينضم إليها جنة الإنسان فى الأرض.
كانت تجربة جديدة وفريدة بالنسبة لكاتب هذه السطور وتستحق الكتابة عنها ونقلها إليك قارئى العزيز فكم تمنيت لو أن كل ركن فى بلادنا التزم بتلك القيم؟! المؤكد أن كل شىء سيصبح مختلفًا.
صحيح كانت لى بعض الكتابات الصحفية فى نقد الأعمال السينمائية منذ سنوات طويلة لكنها تبقى تجربة محدودة لذلك كان قرار المخرجة السينمائية ساندرا نشأت بضمى كعضو بلجنة تحكيم مهرجان المركز الكاثوليكى المصرى للسينما فى دورته الـ٧٢ مفاجأة، فالمهرجان من أقدم وأعرق المهرجانات السينمائية فى الشرق الأوسط حيث كانت انطلاقته الأولى فى عام ١٩٥٢.
كيف لكفيف مثلى أمضى جل حياته الصحفية فى كتابة التحقيقات والتقارير الإخبارية والمقالات السياسية أن يشارك فى تحكيم ٦ أفلام سينمائية وترشيح المستحقين للجوائز المختلفة فى المهرجان؟!
نعم.. المعالجة السينمائية للقصة عبر السيناريو والحوار مع الموسيقى التصويرية وأداء الممثلين والأصوات التى قد يستخدمها المخرج لرسم انطباع معين لمشاهده فى ذهن المتلقى قد تساعد المكفوفين من عشاق السينما على استيعاب الصورة العميقة التى تقدمها العدسة السينمائية، لكن هل يكفى كل ذلك ليشترك من اعتاد الاعتماد على أذنيه فقط لرؤية كل الأشياء؟!.
حرية أن تقول ما عندك وأن تبدى وجهة نظرك كما هى، واستقبال الآخرين لها بسماحة وتسامح ثم انخراطك فى نقاش هادىء يتلمس الموضوعية والحياد يساعدك على تصحيح وجهات نظرك وتعديلها أو حتى تغييرها بمرونة فوق أنه يمنحك الثقة فيما أجمع عليه الآخرون مما قلت أو عبرت عنه من أفكار.
هكذا كان نهج كل أعضاء اللجنة وهكذا كان أبونا بطرس دانيال مدير المركز الكاثوليكى للسينما عندما كان يلفت انتباه الجميع برقة إلى العناصر التى يتعين علينا الإلتفات إليها وعدم إغفالها.
وكأن الجميع قرأ مقولة الكاتب الصحفى والروائى محمد شعير فى روايته “مصنع السكر” على لسان أحد أبطاله والتى أنقلها بتصرف “تريد أن تحب بسماح وسماحة، أما السماح فأن تخطىء وتصيب، وأما السماحة فأن يقبل الحبيب خطأك ويغفره".
بهكذا مبدأ يمكن لكل مؤسسة أن تحافظ على بنيانها متماسكًا قويًا طالما أن الجميع يسمح بالخطأ والصواب بحرية مطلقة ويسامح فيعدل المخطىء من خطأه.
هذا هو المهرجان الرابع عشر الذى يديره أبونا بطرس دانيال فقد تسلم إدارة المركز فى الدورة ٦٨ بمهرجانه السينمائى عام ٢٠١٠ وقد عكست مداخلاته اللطيفة الهادئة السمحة خبرته العريضة حتى أننى رحت أتخيل لو أن القدر قاده إلى مجال العمل السينمائى والفنى، لكنه وعلى أية حال ورغم اتجاهه إلى الرهبنة فى سن مبكرة وهو ابن الحادية عشر قدم للفن السابع ما لم يستطع كثيرون تقديمه بحفاظه على معايير أخلاقية وقيمية فى اختيار الأفلام المرشحة للفوز بجوائز المهرجان، لذلك كانت هذه الإدارة الرشيدة الهادئة الديمقراطية إن جاز التعبير، وقد شاركه فى اختيار الأفلام الستة المتسابقة على جوائز المهرجان ميشيل ماهر مدير قاعة النيل بالمركز الكاثوليكى السينمائى ومجدى سامى المشرف على مكتبة المركز التى تحوى أرشيف السينما المصرية بكل ما أنتجته من أفلام منذ عام ١٩٥٢ وحتى اليوم بخلاف آلاف الكتب والمراجع المتخصصة فى النقد السينمائى.
أعضاء اللجنة جميعهم قامات فنية وسينمائية يعلمها الجميع بدءًا من المخرجة ساندرا نشأت رئيس لجنة التحكيم، ومرورًا بالكاتب الروائى والسيناريست القدير عبدالرحيم كمال، والفنان القدير أحمد شاكر عبداللطيف مدير المسرح القومى السابق، والمونتير الكبير كمال الملاخ، والمصور السينمائى الكبير إيهاب محمد على، وصولًا إلى الفنانة القديرة حنان مطاوع والفنانة القديرة داليا مصطفى والموسيقار الكبير مصطفى الحلوانى.
الكل كان حريصًا على الإنصات للكل وبعين الصحفى لم ألحظ أى محاولة للاستعراض أو فرض الرأى بل كان التواضع سمت الجميع لذلك جاءت جميع الجوائز بتوافق هادىء موضوعى.
كانت تجربة فريدة فيما تعلمته ورصدته من تعدد الآراء ووجهات النظر وتنوع الخبرات والخلفيات لذلك لم يكن صعبًا التقاط الشعيرات الفاصلة فى تميز الأفلام الستة بكل عناصرها السينمائية، هكذا يكون كل عمل سهل وممتع عندما تكون فى حضرة أهل الاختصاص.
بعين المخرجة وصفت لى ساندرا نشأت مشاهد الأفلام وبعين المصور السينمائى شرح لى إيهاب محمد على تفاصيل المشاهد وبأذن الموسيقار نقل إلى مصطفى الحلوانى إيقاع الأعمال، كان ذلك أثناء مشاهدة الأفلام وهى: أنف وثلاثة عيون للمخرج أمير رمزى، أنا لحبيبى للمخرج هادى الباجورى، ١٩ب للمخرج أحمد عبدالله السيد، بيت الروبى للمخرج بيتر ميمى، وش فى وش للمخرج وليد الحلفاوى، ڤوى ڤوى ڤوى للمخرج عمر هلال.
أخيرًا وليس آخرًا.. ما تعلمته فى رحاب المركز الكاثوليكى للسينما وحضرة هذه القامات الرفيعة لا تسع هذه السطور الكتابة عنه، لكن يبقى القول أن الأرشيف السينمائى الذى يعمل المركز على حفظه ورقيًا منذ ٧٢ عاما يحتاج إلى من يدعم المركز الكاثوليكى المصرى للسينما لحفظه الكترونيًا حتى يظل متاحًا كما هو الآن وبصورة أفضل وأيسر للباحثين والمتخصصين والصحفيين والجمهور العام ذلك أن كلفة هذه العملية كبيرة وكل حريص على احتفاظ مصر بأحد أهم مصادر قوتها الناعمة مدعو للمشاركة فى هذه العملية.
*كاتب صحفى