.. ونواصل مع كتاب المفكر المصري الكبير الدكتور فؤاد زكريا؛ وعنوانه «العرب والنموذج الأمريكي».. إن أمريكا، وفقًا لأيديولوجيتها المعلنة صراحةً، لابد أن تكون أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر. وليس هذا اتهامًا وإنما هو إقرار لحقيقة بسيطة واضحة. فحين تقول إن حافز الربح هو القوة الدافعة إلى العمل والابتكار، وحين تتهم خصومك بأنهم لا يعطون الإنسان فرصة كافية لكي يربح إلى أقصى مدى تسمح له به إمكاناته، يكون معنى ذلك أن فلسفتك مادية حتى النخاع، وأن تشدقك بحماية المعنويات والروحانيات ليس نفاقًا فحسب، بل تناقض صارخ يرفضه أبسط عقل منطقي. إن الإنسان هناك لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع. وقد تكون هذه حقيقة من حقائق الحياة، وقد يكون هذا هو بالفعل أقوى الحوافز التي ثبت، حتى المرحلة الحالية من تاريخ البشر على الأقل، أنها هى التي تحرك الإنسان إلى الإنتاج وبذل الجهد، هذا كله جائز، ولكن ليست هذه هى القضية التي أناقشها، وإنما الذي أود أن أقوله ببساطة هو: إذا كنت من أنصار هذا الرأي فكيف تدَّعي أنك خصم للمادية، وكيف تنصِّب نفسك حاميًا للمعنويات وحارسًا لإنسانية الإنسان. (ص ٢٥)
هذا التناقض يمثل، في رأيي خدعة ومن أخط الخدع الفكرية التي تتعرض لها شعوب العالَم الثالث. وعلينا أن ننتبه بكل وعي إلى هذه المغالطة في الوقت الذي يُطرَح فيه النموذج الأمريكي على الساحة العربية بقوة وإلحاح؛ ذلك لأن مجتمعاتنا ما زالت حريصة كل الحرص على وجود حد معين من القيم الإنسانية والمعنوية، وما زالت تؤمن بأن ما يُحرك الإنسان ليس الماديات وحدها (رغم اعترافنا بأهمية الماديات)، وبأن في الإنسان قوٍي تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء. فإذا إليها الدعاية الأمريكية على أنها هى التي ترعى هذا الجانب المعنوي في الإنسان، وإذا ظهر بيننا من يبدي إعجابه غير المحدود بالنموذج الأمريكي، فلنقل له: في استطاعتك أن تُعجب بنمط الحياة الأمريكية كما تشاء، ولكن عليك أن تعترف بأنك تسعى، في هذه الحالة، إلى إقامة مجتمع مادي بصورة صريحة مباشرة في صميم كيانه، وعليك في نهاية الأمر أن تتحمل العواقب اللإنسانية المترتبة على هذا الجري اللاهث وراء المادة، وهذا التجاهل التام للجانب المعنوي في الإنسان. (ص ص ٢٥ – ٢٦)
منذ الحرب العالمية الثانية دخلت أمريكا إلى المنطقة بكل ثقلها، وكان تحقيق الاستقلال الوطني من الاستعمار التقليدي من أهم العوامل التي ساعدتها على التغلغل السياسي في البلاد العربية، بل إنها في بعض الحالات ساعدت الدول العربية إيجابيًا على تحقيق استقلالها الوطني لكي تزيح الدول الاستعمارية القديمة وتفسح لنفسها مجال التغلغل في المنطقة بأشكال جديدة ولأهداف جديدة. (ص ٢٧)
ولقد سعت أمريكا إلى التغلغل في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن لماذا هذا السعي؟ إن السبب الذي يعرفه الجميع، بالطبع، هو البترول، الذي كان قد ظهر بالفعل في البلاد العربية قبل تلك الحرب، ولكن إمكاناته الهائلة في المنطقة العربية، ودوره الحيوي في مستقبل العالَم الصناعي، لم تظهر بوضوح إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعبارة أخرى فإن العوامل التي كانت تدفع الدول الاستعمارية التقليدية إلى احتلال أجزاء من الوطن العربي، كالموقع الجغرافي والسيطرة على طرق برية وبحرية حيوية... إلخ، لم تعد تحتل المكان الأول في سياسة الدول الكبرى التي ورثت الاستعمار التقليدي (وإن كانت تلك العوامل قد ظلت تحتفظ بقدر غير قليل من أهميته)، وإنما حلت محلها الرغبة في السيطرة على موارد مادة حيوية بدونها يتوقف نبض الحياة في مصانع العالَم الغرب، ويوجد أهم مخزون عالمي منها في المنطقة العربية. (ص ٢٨)
على أن أمريكا، في سعيها إلى بلوغ هذا الهدف، كانت تحتاج إلى وسيلة تختلف عن الوسائل التقليدية التي كانت تلجأ إليها الدول الاستعمارية السابقة. وسرعان ما اهتدت إلى تلك الوسيلة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً، عندما حللت الموقف في المنطقة العربية وظهرت لها الإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها الطموح الصهيوني إلى إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وسرعان ما تبنت قضية الصهيونية، وساعدت بكل قوة إلى إقامة الدولة الإسرائيلية وعلى استمرار وجودها وتوسعها، متخذة من هذه الدولة أهم أداة لها من أجل تحقيق هدفها في السيطرة على المنطقة، وعلى مواردها.
لابد لكل من يبهره النموذج الأمريكي، ويحلم بتحقيقه في بلده العربي، أن يواجه مشكلة أساسية، هى التوفيق بين إعجابه المفرط بأمريكا، وبين ما يعرفه عن الارتباط الوثيق بين أمريكا وإسرائيل. والذي يحدث عادةً هو أن المعجبين بأمريكا يصورون هذا الارتباط بصورة مشوهة، أو مخففة لا تعبر عن حقيقته، وإنما تعبر عن رغبتهم – الواعية أو غير الواعية – في الاحتفاظ بصورة نقية لأمريكا من جهة، مع عدم التفريط في موقفهم تجاه إسرائيل من جهة أخرى. وتدور هذه الصورة المُشوَّهة عادةً حول فكرة رئيسية، هى أن الارتباط بين أمريكا وإسرائيل مُؤقَّت، وأن في استطاعة العرب، لو أجادوا استخدام الأساليب السياسية والدبلوماسية، أن يفكُّوا هذا الارتباط، ويوجِّهوا السياسة الأمريكية نحو الانحياز لهم، وأن يضمنوا على الأقل وقوفها على الحياد، بحيث تتخذ في نهاية الأمر خطًّا متوازيًا بين الطرفين. إن كل من يختار صداقة أمريكا وتأييد اتجاهاتها العامة وترك المجال أمامها لكي تتغلغل استراتيجيًا واقتصاديًا في المنطقة لابد أن ينتهي به الأمر إلى موقف متهاون في قضية إسرائيل. وكل من يأخذ البديل الثاني مأخذ الجد، أعني من يريد الوقوف بحزم وصلابة في وجه الأطماع الصهيونية، لابد أن يصطدم بشكل أو بآخر بالمصالح الأمريكية، وأن يتخلَّى عن وهم الاستعانة بأمريكا من أجل زحزحة إسرائيل عن مواقفها.
يقول فؤاد زكريا نصًا: «إنني أكاد أُجزم، عن طريق الاستنتاج وحده، بأنه يوجد في مكان ما من أدراج مكاتب صانعي السياسة الأمريكية، تقرير أو تخطيط استراتيجي أساسي وُضِعَ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يوجه السياسة الأمريكية إلى تأييد قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وإلى تبني القضية الصهيونية، والاعتماد على إسرائيل بوصفها الركيزة الكبرى للسياسة الأمريكية في المنطقة».(ص ٣٤)
ونحن ندعم ونؤيد استنتاجات المفكر الكبير فؤاد زكريا، ونقول: إنها ليست مجرد استنتاجات، بل حقيقة واقعية أثبتتها المذابح التي يرتكبها الكيان الصهيوني بدعم ومشاركة من الولايات المتحدة الأمريكية من خلال كافة وسائل الدعم والمشاركة. إلى حد أن بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية صرح علانيةً: «إن لم تكن إسرائيل موجودة لقمنا بصناعتها».
د.حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس