إلى المؤمنين بمنطق أن «أمريكا بَنَت نفسها حتى أصبحت الدولة العظمى في مائتي عام، فلنفتح لها أبوابنا حتى نضمن لأنفسنا تقدمًا مماثلًا» - إلى هؤلاء يقول فؤاد زكريا في كتابه «العرب والنموذج الأمريكي» ص 13، إن الظاهرة الأمريكية فريدة غير قابلة للتكرار، وأنها حدثت نتيجة لتضافر عدد من الظروف التي يستحيل أن تتجمع مرة أخرى في مكان آخر وفي زمان مختلف.
هذه الظروف التي لا تقبل التكرار، والتي جعلت من أمريكا «الدولة الأعظم» في العصر الحديث، هى:
أولًا: أمريكا قارة تنتمي إلى العالَم الجديد، وهذه في ذاتها حقيقة أساسية تحكمت في تحديد مركز أمريكا وسط دول العالَم منذ البداية، وهى لم تكن أرضًا بِكْرًا فحسب، بل كانت قارة كاملة غنية بالموارد الطبيعية إلى حدٍّ مذهل، تجاورها قارة أخرى كاملة تُكوِّن «ساحتها الخلفية» وتخضع لاستغلالها خضوعًا مباشرًا، وفي هذا الصدد نستطيع تشبيه أمريكا بكنز هائل ظل مخفيًا ألوف السنين، ينتظر صاحب الحظ السعيد الذي يعثر عليه.
ولقد كان الوقت الذي اكتُشف فيه هذا الكنز الجبار وقتًا فريدًا بدوره، أعني عصر النهضة الأوروبية ومطلع العصر الحديث؛ ذلك العصر الذي بدأت فيه أوروبا تتطلع إلى السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم والتكنولوجيا، والذي نادى فيه مفكروها وفلاسفتها الكبار بأن يصبح البشر «سادة الطبيعة ومُلاكها»، وأن يكون العلم للسيطرة «لا للمعرفة فحسب».. في لحظة الطموح الفريدة هذه اكتُشفت أمريكا. (ص ص 13 – 14).
وهكذا تضافرت عوامل فريدة في خلق الظاهرة الأمريكية: أرض مليئة بالخيرات التي لم تكد تمس، يهبط عليها فجأة مجموعة من البشر المنتمين إلى حضارة بلغت أوج نهوضها وتفاؤلها، ويحملون معهم كل خبرات العالَم القديم وتراثه العلمي والفكري، وطموح الإنسان الحديث إلى السيطرة على الطبيعة وتشكيل حياة جديدة لنفسه. أرض جديدة لا حدود لاتساعها وإمكاناتها، تفتح أبوابها على مصراعيها أمام الإنسان الأوروبي وهى تبدو أمامه بلا تاريخ، ولا صاحب.
ثانيًا: ولكن هل كانت هذه الأرض حقًا بلا تاريخ، وبلا صاحب؟ من الحقائق التي يعرفها الجميع أن هذه الأرض كان يسكنها شعب مسالم، أدت به عزلته النائية وعدم اختلاطه بالحضارات الأخرى إلى التخلف عن بقية العالَم في ميادين متعددة، ولكنه كان صاحب حضارة مزدهرة في مناطق معينة على الأقل: في المكسيك، وأمريكا الوسطى، وأجزاء من أمريكا الجنوبية، وخاصةً بيرو.
غير أن نقطة الضعف الكبرى في هذا الشعب كانت أدوات الحرب: فقد طوَّر الغرب الأوروبي أسلحته قبل الفترة التي غزا فيها الأرض الأمريكية، إلى مستوى كان يتيح له بسهولة إبادة شعب لا يستخدم سوى أسلحة الصيد البسيطة. وكان هذا التفوق في التسلح، أي في صناعة القتل، هو العامل الأول لانتصار المستعمرين الأوروبيين على أصحاب الأرض الأصليين، ومن المؤكد أن أمريكا ظلت دائمًا تدرك بوعي تام أهمية التفوق في التسلح، بدليل أنها ما زالت تفوق سائر بلاد العالَم في هذا الميدان الرهيب، وما زالت صاحبة «الفضل» الأول في «تحسين» أدوات الفتك والإبادة، وفي تطوير أنواع وأجيال جديدة من الأسلحة، وإرغام العالَم على مجاراتها في هذا الميدان اللإنساني العقيم. (ص 14)
والسؤال المطروح على القارئ هو: ألم نستنتج من هذا الوصف لموقف الأمريكيين من الهنود الحمر شيئًا؟ ألا يُذكِّرنا ذلك، إلى حدٍّ بعيد، بموقف الصهيونية من فلسطين؟ لقد كانت أمريكا بدورها، في نظر المستوطنين الأوروبيين الجدد، أرضًا بلا شعب، وكان الوافدون من جميع أرجاء أوروبا، الذين ضاقت بهم قارتهم القديمة أو ضاقوا بها، والذين كان منهم تجار مغامرون ورجال دين متزمتون وأفاقون وأرباب سجون هاربون؛ كان هؤلاء ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم شعبًا بلا أرض.
كان كل شئ في الأرض الجديدة ممهدًا أمام طموحهم وأهدافهم التوسعية، ولم تكن تعترضهم سوى عقبة «صغيرة» هى أن في هذه الأرض سكانًا ظلوا يعيشون فيها منذ ألوف السنين. إذن فلنتخلص منهم بسرعة، ولنحاول بعد ذلك أن نسدل ستارًا من الصمت والنسيان على تلك الحقيقة «الصغيرة» المزعجة، لاسيما وأن إنجازاتنا اللاحقة كفيلة بأن تُبرد في نظرنا، وفي نظر العالَم، وما حدث في تلك المرحلة الأولى، المظلمة، من تاريخنا. (ص 15)
إن المقارنة بين إبادة الأمريكيين للهنود الحمر، ومحاولة إسرائيل إبادة الشعب الفلسطيني من خلال المذابح التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة اليوم؛ يثبت على نحو قاطع إن إسرائيل تنهج النهج الإجرامي نفسه الذي انتهجه الأمريكيون تجاه الهنود الحمر. قادة إسرائيل لا ينظرون إلى الفلسطنيين بوصفم هنودًا حمر، بل بوصفهم «حيوانات بشرية» كما صرح يذلك وزير الدفاع الصهيوني جالنت. إن هذه المقارنة بين إبادة الأمريكيين للهنود الحمر، ومحاولة إسرائيل إبادة الشعب الفلسطيني تكشف سر دعم الولايات المتحدة الدائم لإسرائيل وهذه المقارنة توضح أيضًا سبب تعاطف المواطن الأمريكي مع الحجج الصهيونية؛ إذ يرى فيها ترديدًا لنفس الحجج التي قامت عليها بلاده، والتي كان يستخدمها أجداده في إبادة الهنود الحمر. فهناك عنصر مشترك قوي بين التكوين العقلي والنفسي للإنسان الأمريكي والإنسان الصهيوني: هو الإيمان بأن الأرض ينبغي أن تنتمي إلى من يستغلها؛ أما صاحبها الأصلي فليذهب إلى الجحيم. (ص 15)