واجهني هذا السؤال في إحدى الصفحات الإلكترونية: "هل يمكن أن نرى في المستقبل نهاية لدور المؤرخين إذا اعتبرنا الإعلام تغطية للأحداث التاريخية؟". إن هذا السؤال الذي يبدو متوقعًا للوهلة الأولى، لكنه يحمل في طياته الكثير من التهديدات للمستقبل القريب قبل البعيد. إذ أننا كدارسين للإعلام جميعًا ندرس مادة تجعلنا نستخدم المادة الإعلامة فيما اصطلح على تسميته بالتوثيق، أي تقديم المادة الوثائقية مما يقدمه الإعلام. تعتبر الأفلام الوثائقية من أهم الأمثلة على ذلك. إذ أنها شكل يستطيع أن يراه المتلقي العادي ويتلقى منه المعلومات التي توثق لحقائق، وليس شكلًا دراميًا يستخدم أحداثًا مصطنعة وبهارات فنية. يأتي بعد الأفلام الأرشيف الصحفي، الذي يتيح لكل عامل في مؤسسة ما أن يطلع عليه إذا أراد التعرف على خط سير تقدم مؤسسسته في مجال معين. إذ يشتمل الأرشيف الصحفي على التغطيات الإعلامية التي تناولت أنشطة المؤسسة أو الأنشطة التي تهمها، مثل تعديلات قوانين العمل التي تحكم حركة المؤسسة.
تقدمت قدرات المؤسسات الإعلامية مع الوقت. إذ أتاحت التكنولوجيا أشكالًا جديدة من المتابعة الفورية الحية المصحوبة بتسجيل مرئي ومسموع للأحداث، يمكن حفظه والرجوع له دون التدخل في تحويله لمادة وثائقية يمكن حفظها والرجوع لها للتأريخ. لكن هل يمكننا أن نطالب الإعلامي بالتجرد من ذاتيته في التعببر عن رأيه في مواد الرأي حتى لو أشار بوضوح إلى أن هذا رأي لا علاقة له بالأحداث الموضوعية؟ إن الإعلام في حد ذاته يحمل فنونًا مختلفة للرأي، ولها أصول علمية ومهنية في كتابتها بحيث لا يختلط الرأي بالحقيقة، إلا أن المادة التاريخية بعد فترة من الزمن حين تتحول لتاريخ نجد أن تحليل آراء من كتبوها يكتسب قوة تاريخية في حد ذاته. حينها تثار تساؤلات حول طبيعة المادة الوثائقية التي سيتفهمها الجيل القادم، وليس تلك التي يقدمها الإعلامي في الوقت الحالي.
يتضح لقراء التاريخ أن المؤرخين لجأوا في إثباتهم لبعض حقائق التاريخ إلى أعمال فنية مسرحية إعلامية، كما حدث في تأريخ أحداث طروادة والتاريخ الإغريقي من خلال العودة لملحمة هوميروس الشعرية. يرى المؤرخون أن الإعلام والأدب يقدمان إنعكاسًا للأحداث في الفكر الإنساني بأشكال مختلفة تعبر عن العصر الذي عاش فيه الكاتب. ترى في انعكاس هذا الفكر أمارات حرية التعبير وملامح الحضارة والمراكز الاجتماعية المختلفة للأفراد، وحالات التغير الفكري الناتجة عن الحروب وتعاقب الحكومات المختلفة. إلا أن كل ذلك يظل رهينًا برؤية من كتب.
ويعتقد جانب آخر من المؤرخين أن المؤرخ ذاته، الذي لا يسمح له بأن يقدم رأيًا شخصيًا بشكل صريح كالإعلامي، لا يمكنه أن يخرج من ذاتيته. إلا أن ندرة عدد المؤرخين والأسلوب العلمي المعتمد للبحث عن موثوقيتهم يجعل الأمر أسهل في التأكد من سلامة ما يكتبون. نجد أن جانبًا من التراث يرى أن التاريخ يكتبه الأقوياء، وهم من يسمحون لبعض المؤرخين بأن يكونوا مؤرخين من الأساس. لكن هذا أيضًا يظل تبريرًا شخصيًا في كثير من جوانبه، إذ لم يدخر من تلوا حتشبسوت وسعًا في إخفاء ملامح كثيرة من عصر حكمها، مع ذلك وجدنا ما مكننا من تكوين فكرة شبه كاملة عن هذا العصر. اعتمد ذلك على غير المؤرخين الرسميين أحيانًا كالفنانين.
يختلف الأمر فيما يخص التوثيق الإعلامي، لا سيما وأن تعريف الإعلامي الآن اتسع لدرجة كبيرة حتى أنه ضم صانعي محتوى التواصل الاجتماعي وأي مشارك في نشر أي مضمون بأي طريقة تحت عباءة المواطن الصحفي. ترى هل نحن الآن بحاجة لحماية التاريخ، أم أن كل الضوضاء لا تدخل التاريخ بحكم حماية التاريخ لنفسه بطريقة تشبه حركة الطبيعة؟. هل نحن في فترة يتغير فيها التأريخ نحو شكل جديد يمتزج فيه بالإعلام؟ أم يتدخل فيه الإعلام في التأريخ عن طريق إضافة تسجيل حالي باقٍ لفترة طويلة لهذا التأريخ؟. إنني أرى أن الإنسان يختار أساليب تعبيره حسب حاجة عصره، وما نعيشه تعبير عن حاجة العصر، لذا يستحق أن يقنن له أسلوب تأريخ جديد سنناقشه وفق قوانين محكمة في المقال القادم إن شاء الله.