يشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2024 في نسخته الـ 55 المقرر إقامته في الفترة من 24 يناير وحتى 6 فبراير المقبل، كتاب "المعرفة والسُّلطة في التراث الإسلامي"، للباحث اللبناني د. سعيد علي نجدي، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات هذا العام.
يدور الكتاب بكامله حول الحركة الإسماعيلية، من بداياتها القرمطية حتى تجلّياتها المُعاصرة في الآغاخانية التي هي امتداد للنزارية فرع قاسم شاه.
عنوان الكتاب، وإن كان أشمل من موضوع الكتاب، إلّا أنّه في صميمه؛ إذ إنّنا لا نجد مثالًا على الصلة بين المعرفة والسلطة أجلى من الحركة الإسماعيلية، في بنيانها النظري وتاريخها السياسي. هذه الحركة الشيعية بقيت متّقدة منذ العصر الأموي حتى يومنا هذا. أثناء ذلك نجحت في الانتشار، بل والغلبة السياسية، والحُكم في المغرب ومصر وسوريا والعراق واليمن وإيران. كما امتلكت، منذ البداية وعلى طول انتشارها، عمارة نظرية بالغة التفصيل والتماثل والتجدّد، قبالة كلّ مرحلة، والانفتاح على ثقافات العصر ومذاهبه.
الإسماعيلية، منذ دعوتها الأُولى ومهما انعطفت بعد ذلك وتعدّدت، فإنّها منذ البداية كانت تنصبّ وتؤسّس جهازًا نظريًا مقابل السلطة، وعلى السلطة. لذا نجد أنّ تاريخها الفعلي هو هذه المزاوجة المستديمة بين البناء النظري والممارسة التاريخية. الدعوة المرتكزة إلى الإمام كانت، من أوائلها، تصنع يوتوبياتها السياسية بقدر متزايد من الهندسة النظرية، والإعلاء، والمقابلة بين الروحاني والأرضي، وجمعهما في نظام كوني ورؤية جامعة.
كتابُ "نجدي" يتقصّى ذلك، ويعرض له في مختلف محاوره وأركانه. إنّه على هذا النحو، ذلك المزيج من التاريخ الفعلي والإشراقات الفكرية التي تزاوج الممارسة والظرف السياسيَّين. نحن في الكتاب نقرأ، في وقت واحد، هذا التقاطع بين السياقين. الكتاب يتوقّف عند لحظات هذه المزاوجة، وعناوينها الكبرى، التاريخ من البدايات القرمطية حتى الدولة في المغرب ومصر وامتداداتها في سوريا واليمن والعراق وإيران، وطبيعة هذه الدولة في كلّ من مراحلها. ذلك يعني أنّ الكتاب، في صفحاته التي تزيد عن الأربعمائة، وفي عمله على النظام الإسماعيلي في بنائه المفهومي وتراتباته، وما يقابل ذلك من تأويل، وما يتزامن معه من أحداث، إنّما هو نوع من تاريخ مختصر، ومتكامل، للحركة الإسماعيلية.
ليس غريبًا أن يبدأ سعيد نجدي من النظام الإسماعيلي بهندسته ومراتبه، السابق وهو العقل الكلّي، والتالي وهو النفس الكلّية، الناطق وهو الرُّسل السبعة، الأساس الذي يلي الناطق. لا نقف فقط عند هذا التراتب، فهناك مقابله سلسلة من الأدوار، أدوار النطقاء وهي كبرى، أي أنّ الدور فيها يمتدّ من آدم حتى الإمام الناطق، والأدوار الصغرى للأئمّة المُتمّين، وتتضمّن سبعة بين كلّ إمام ومن سبقه.
هناك أيضًا الحدود وممثولاتها بين الملائكة وبين العقول. هناك الحدود العُلوية الخمسة والحدود السفلية الخمسة. هناك أيضًا مراتب الإمامة، الإمام المستقرّ والإمام المستودع كالحسن الذي بلغته الإمامة عن طريق الأخوة لا عن طريق البنوة كما هي القاعدة. يلي الإمام الحجّة أو الباب الذي يقابل العقل الرابع، الحجّة الذي يقابل العقل الخامس، فداعي الدعاة، فداعي البلاغ، فداعي المطلق، فداعي المأذون، فداعي المحصور، فالمكاسر، فالمكالب، فالمستجيب.
هناك أيضًا فلسفة العدد الفيثاغورسية، السبعة جمعت معاني العدد كلها، النقباء اثنا عشر، أبدان الحيوانات أربعة والطبائع أربعة. هناك أيضًا قطب الزمن الإمام وهو ما قبل العقل. لا يترك الله العالم خاليًا من إمام. الإمامة هي باطن مظاهره التنزيل، الأئمّة يعلمون الغيب وهُم فوق الخلق، وقد جعل الله الإمامة في نهاية الإنسان، وإذا كان الله هو النور فالإمام هو المصباح. هناك أيضًا التأويل الذي يستخرج من باطن النص نصًّا مقابلًا. القرآن يصبح بالتأويل نصًّا آخر، التأويل يقوم على المماثلة، على معادلة المثل للممثول، الشجرة التي أكل منها آدم مثل للقائم، الحجر الأسود مثل لحوّاء، والشجرة مثل للقائم المنتظر.
أمّا بِاسم، في الآية المعروفة، فهي النفس، والله فيها هو العقل، الرحمن هو الناطق، والرحيم هو الأساس. هكذا في جملة هذه المقابلات بين الأرضي والنوراني، بين الفوقاني والتحتاني، بين المثل والممثول، بين المراتب العلوية والمراتب السفلية، بين المعاني والأفلاك والباطن والظاهر، تتجلّى الهندسة الإسماعيلية للكون، هندسة يصعد فيها الإلهي إلى الغيب، ليسقط على الإمام الذي هو القطب والمحور.
هذا ما يعني أنّ الجهاز النظري، في تسلسله وتعدُّده وتفرّعه وتماثله، يجعل من الإسماعيلية منبعًا أيديولوجيًا وهندسة كونية كاملة. هنا يمكننا أن نتبيّن العلاقة الوطيدة، والتراكب والتماثل والتوازي، بين السلطة والمعرفة، بين النصّ كسلطة وكمعرفة في آن واحد، إذ يقع هكذا كبنية متقاطعة متداخلة.
ربما من هنا أهمّية النظري والأيديولوجي في النصّ الإسماعيلي. أهمّية جعلت الإسماعيلية تتشرّب نصّها من مصادر شتّى، هي جماع ثقافة عصرها، ففيها من الفلسفة ومن الأديان التوحيدية وغير التوحيدية، ما يجعلها، كعمل ثقافي، تنفتح على الجميع وتقبل الجميع وتتعايش مع الجميع. قد يكون هذا الانفتاح ميزتها الأُولى في النطاقَين: السلطة والعقيدة. وقد يكون كذلك في خطابها ودعوتها، كما هو في ممارستها التاريخية.