استكمالًا لما بدأناه من حديث عن حوار الأديان؛ بحثًا عما يمكن أن يكون مدخلًا لسيادة لغة الحوار في المجتمع المصري، تلك اللغة التي هي- في الأساس- لغة بناء المجتمعات وتماسكها، وهو ما لمسناه في حياة التعايش الاجتماعي بين المصريين المسيحيين والمصريين المسلمين على مر التاريخ المصري، يمكننا أن نجد الحالة نفسها من التعايش الاجتماعي بين المصريين المسلمين والمصريين اليهود. ولقد انعكست هذه الحالة التعايشية في معظم أشكال موروثنا الشعبي. ولعل خير مثال تعكسه ثقافتنا الشعبية على هذا التعايش الاجتماعي السمح بين المسلمين واليهود على أرض مصر، يتمثل في النموذج الإنساني للسيرة الهلالية المدونة. ففي القسم الأخير منها، المعروف بديوان الأيتام، بعد أن يقضي دياب بن غانم على السلطان حسن، وقيام دياب بقتل أبو زيد الهلالي في إحدى رواياتها، أو بعد أن أفقده بصره في رواية أخرى، فإن أبو زيد الهلالي وهو في حالة إعيائه ينصح البطلة الهلالية الأميرة الجازية أن تهرب بنساء بني هلال الحوامل إلى مملكة شمعون اليهودي، واللجوء إليه، خشية أن يفتك بهن دياب بن غانم، حتى لا يخرج من صلبهن من يطلب الثأر منه. وبالفعل اصطحبت الجازية النسوة إلى مملكة شمعون اليهودي، فاستقبلها واستقبل من معها خير استقبال. والملفت للنظر أن وزير الميمنة للملك شمعون كان مسلما واسمه أبو الجود. أنجبت النساء الحوامل، وتربى الأطفال في كنف الملك شمعون اليهودي، حتى كبروا وطلبوا العودة إلى ديارهم بأرض نجد، طلبا للثأر من دياب، فحاول أن يثنيهم عن قرارهم، ولكنه أمام إصرارهم، سمح لهم، بعد أن أغدق عليهم من الهدايا. مثل هذه السيرة لم يجد الراوي المصري المسلم- حتى وقت قريب- غضاضة في روايتها على الجمهور المصري بشتى طوائفه، متغنيا بأخلاق اليهود، الذين يجيرون من يلجأ إليهم. هذا عندما كانت اليهودية مجرد ديانة سماوية، قبل أن تلوثها السياسة المتمثلة في الحركة الصهيونية.
ظلت هذه الحالة من التعايش الاجتماعي سائدة في مصر، لدرجة لفتت إليها انتباه المستشرقين، الذين أشادوا بها في كتاباتهم عن مصر، لأنهم وجدوا فيها ما لم يجدوه في بلدانهم من تسامح وتعايش وسلام. هذا ما أشار إليه علماء الحملة الفرنسية في موسوعة وصف مصر، والإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه "المصريون المحدثون: عاداتهم وشمائلهم"، وغير ذلك من كتابات القرن التاسع عشر على سبيل المثال لا الحصر. في حين عندما سطرت الصهيونية مبادئها العدوانية، لم يقف الوجدان الشعبي المصري، بل العربي، بمعزل عن هذا التحول، فبدأت تتكون صورة جديدة لليهودي، خاصة بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وفي الحقيقة لم يكن اليهودي هو المقصود في الصورة السلبية الجديدة له، وإنما كان الإسرائيلي هو ما تعنيه موروثاتنا الشعبية. لم يعد اليهودي في صورته الجديدة متعايشا ومسالما ومتسامحا، وإنما أصبح الوجدان الشعبي المصري يربطه بالاغتصاب. فالسيرة الهلالية التي تغنت قديما- في رواياتها المدونة- بأخلاق اليهود، هي السيرة نفسها التي غيرت صورتهم في رواياتها الشفاهية. فبدلا من شمعون اليهودي الذي تحلى بأخلاق الفرسان النبلاء إنسانيًا، حلت بدلًا منه شخصية مسلمة هي الملك محمود البياضي، ليجير نساء بني هلال المسلمات بدلًا من أن يجيرهن شخص يهودي؛ إذ لم يعد للعقلية العربية الجديدة، في ظروفها ومعطياتها الاجتماعية الجديدة، أن تتقبل هذا. وإلى جانب ذلك، استحدث الرواة الشعبيون حكايات هلالية جديدة، يقاوم فيها أبو زيد الهلالية والقبائل العربية هجوم اليهود على مكة، ومحاولة نبش قبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو ما يمكن أن نلمسه من حكايات هلالية جديدة، مثل "أبو زيد الهلالي واليهودي"، وحكاية "دياب والغزالة"، وحكاية "خطف اليهود للجازية ولبنات هلال". وفي الأمثال الشعبية المصرية والعربية، نجد صورا جديدة لليهودي، غير تلك المسالمة والمتعايشة. منها أمثال شعبية تشبهه بالثعبان والحية، من ذلك المثل الشعبي المصري "حطوا اليهودي والحية في كيس.. طلعت الحية تستغيث". هذه هي الصورة الجديدة التي رسمها الوجدان الشعبي المصري لليهود، بعد أن تم خلط السياسة اليهودية بالديانة اليهودية، من خلال الحركة الصهيونية، فأساءت هذه السياسة للدين اليهودي، الذي يحظى بكل احترام وتقدير عند المصريين. ونؤكد مرة أخرى أن الوجدان الشعبي المصري عندما يستخدم وصفًا سيئًا لليهود، فليس المقصود به الدين اليهودي، وإنما المقصود السياسة اليهودية، التي تُعتبر إسرائيل أكبر صورة تتجلى فيها، وتعبر عنها.
إن الأديان السماوية الثلاثة تتسم بالنقاء والصفاء والتسامح والتعايش في أزهي صوره، وإنما تكمن الأزمة عندما يتم توظيف السياسة في الدين، أو يتم استغلال الدين سياسبا. هذا هو الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يهدد هذه الروح المسالمة والمتعايشة، بل يهدد البشرية كلها. وللحديث بقية؛ استكمالًا للبحث عن سبل الحوار المجتمعي.