إن ما تحتاجه مصر أساسًا إنما هو ثورة نفسية بمعنى ثورة على نفسها أولا، وعلى نفسيتها ثانيا، أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيدلوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها، ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية، ذلك هو الشرط المسبق للتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر، هذا ما ذكره المؤرخ الجغرافي الكبير جمال حمدان في كتاب" شخصية مصر. دراسة في عبقرية المكان".
ومن عبقرية المكان لجمال حمدان إلى عبقرية فأس الفلاح الذي كان بيد والدي المزارع البارع والفلاح العفي، وهو من نفس جيل جمال حمدان واللذين كانا يمثلان قوة دفع الهوية المصرية لهذا الجيل والتي شارفت علي الاندثار الآن، ففي أرضنا الزراعية التي كنت ملازما لوالدي في فلاحتها أثناء مراحل طفولتي إلي التحاقي بالجامعة، كانت هناك بقع من حشائش تسمي "النجيل" تلك الحشائش تمتد بجذورها العنقودية إلي عمق الأرض، وتتشعب وتتسع في الأسفل لتمتلك تشابكات التربة ووجودها خطير على الزراعات لأنها تمتص الأرض وتمنع جذور النبات من التغذية من المركبات والأسمدة المطلوبة، فإن نجح النبات في استكمال دورته الزراعية يكون ضعيفا ولونه أصفر مخنوق من الموت وتكون ثماره ضعيفة لا قيمة أو وزن له.
وبما أن فأس والدي رغم قوته لا يستطيع إلا تقطيع الظاهر من النجيل من حشائش على وجه الأرض وتبقى الجذور العنقودية تمتد وتتسمع لتبتلع الأرض وتجعلها غير صالحة للزراعة، فكان والدي رحمة الله عليه يأتي بمحراث كبير حجمه ضخم يصل إلى أبعد من عمق جذور النجيل ويقوم بتقليب الأرض بقوة ليستخرج عناقيد الجذور من العمق الي السطح ومن ثم يترك الأرض تتشمس حتى تنشف الجذور وتفقد ديمومة تواجدها ومن ثم يقوم بتجهيز الأرض للزراعة.
الذي فعله والدي بالتربة هو ما قصده جمال حمدان، فالنجيل ذات الجذور العنقودية تمثل حالة الاغتراب التي اخترقت الهوية المصرية والفساد الذي تجذر وتشعب أثناء عهد نظام حكم مبارك وأصبح واقعا مشرعنا ثقافيًا يحكم المؤسسة والفرد، والفلاح الممسك بالفأس هو المسئول الذي "لا حول ولا قوة له" وأصبح متعايشا ومستسلما لواقع التربة الفاسد وكل زرعه مخنوق من الموت ولا ثمار له، فالنظام الحاكم الحالي قد جهز سطح الأرض جيدًا وجاء بأنواع ممتازة من البذور وأسمدة ونظام ري قوي، وعندما زرع وانتظر الحصاد وجد النجيل "الفساد المتجذر" يخنق الزرع ولا يوجد ثمار، ويشاع الآن إن هناك تغييرا للحكومة وهذا ما تقوم به مصر منذ الستينيات وللأسف ما تحتاجه مصر تغيير سياسات وليس أشخاصا، والمطلوب فورًا هو تغيير كلي في سياسة الحكم عن طريق تكوين دائرة صناعة قرار من رجال دولة أصحاب كفاءة وتخصص تكون مهمتهم توليد جهاز إداري للدولة حديث بداخله عنصر بشري ابن للثورة الرقمية.
والآن مصر قد انضمت إلى مجموعة دول البريكس في قرار تاريخي ونافذة إنقاذ لها مما يحاك بها من مؤامرات يستخدم فيها الجانب الاقتصادي وعملة الدولار ضدها كضغط شديد لتركعيها وإخراجها من معادلة الوجود والتأثير في الشرق الأوسط، ولذا فلا بد من وجود جهاز إداري حديث للدولة داخل دائرة الرقمنة، متضمن عنصرا بشريا عصريا، لكي تستطيع مصر الاندماج مع مكونات بريكس، وبناء علاقات مصالح متبادلة نستطيع التعاطي معها بندية، لأن الاستمرار في التعاطي مع العلاقات داخل بريكس من خلال جهاز الدولة الحالي هو نوع من الانتحار، ولذا ندعو دائمًا لصياغة دائرة صناعة قرار من رجال دولة حقيقيين، لرسم استراتيجية المستقبل ولجم سعار تمدد الحاضر القاتل.
*كاتب معني بالشأن العام