يبدو أن الحرب الإسرائيلية المدمرة والعشوائية تحاول محو تاريخ غزة وثقافتها الإسلامية والمسيحية على حد سواء، إلى جانب الحصار المستمر، باتت تهدد الوجود المسيحي في قطاع غزة لأول مرة في تاريخهم الممتد منذ 2000 عام أي منذ حوالي القرن الثالث لكتابه الفصل الأخير من المسيحية، حيث الفكر السائد لدى جميع المسيحيين الفلسطينيين الآن هو الهجرة، بعد أن دمرت منازلهم وأعمالهم، وبما أنه لا يوجد أفق سياسي يشير إلى نهاية هذه الأزمة، وبعد أن أُستشهد حوالي 3٪ من سكان غزة في الغارات الجوية وهجمات إطلاق النار التي شنتها إسرائيل منذ بداية الحرب، والتي تمثل لحظة تاريخية مظلمة لدي مسيحيى الشرق الأوسط، وتحول العدد من أوائل القرن العشرين، بنحو 17% من سكان فلسطين؛ واليوم يبلغ مجرد 1 إلى 2 في المائة، حيث يعيشون في الشتات.
وكانت الدعاية الإسرائيلية تعتمد علي تصدير صورة أن المسيحيين يتعرضون للاضطهاد من قبل حماس بعكس شهادات بعض الآباء التي أكدت أن حماس وضعت حدًا لمضايقة المجتمع المسيحي، فلم تجد إسرائيل تعزيزًا لروايتها وبما أن المجتمع المسيحي يشكل معضله بالنسبة لإسرائيل بسبب صوتهم المؤثر بشكل عام خارج فلسطين، نظرًا لعلاقاتهم الراسخة مع مؤسسات الكنائس العالمية والغرب، كان لا بد من إخراجهم من المعادلة، بما لديهم من قدرة على نقل الصورة الصحيحة للوضع إلى الخارج، والذي يتعلق بالاحتلال والفصل العنصري، وليس الصراع الديني المزعوم.
إن استهداف إسرائيل المستمر للكنائس أكد على إرسال رسالة مفادها أنه لن ينجو أحد من التطهير العرقي حتى الذين وجدوا مأوى في المباني الدينية مما يفند ادعاءاتها أمام العالم، وقامت بتدمير المزار الأخضر في دير البلح وسط القطاع، وهو أول دير مسيحي بني في فلسطين خلال العصر البيزنطي في محو كامل للتراث المسيحي، حتي الاكتشافات التاريخية علي سبيل المثال، فسيفساء أرضية بيزنطية عمرها 1500 عام، وهذا ما أكده بيان إدانة يوم عيد الميلاد صادر من مركز الميزان لحقوق الإنسان بشأن استهداف إسرائيل المتعمد للمسيحيين الفلسطينيين وأماكن عبادتهم في غزة، مشددًا على أن ذلك يهدف إلى محو التاريخ والثقافة الفلسطينية في غزة دون جدوى من الادانات المتكررة وغض طرف المجتمع الدولي، فقد يشبه الأمر سلسلة من المؤامرات على كنائس الشرق القديم وتقديم التهويد على طبق من فضة، وهي نكبة ثقافيه ووجوديه مستمرة منذ 75 عامًا والتي شهدت التهجير القسري لثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، فما مصير 50 ألف فلسطيني مسيحي في الضفة الغربية والقدس إن امتدت الحرب؟.
إن نضال المسيحيين لم يعد مستترًا، ولكن يواجهون شعورًا بأنهم مستبعدون من النضال من أجل حرية وطنهم بمدى واسع بسبب تناقص الاعداد، بجانب الترويج الإعلامي الذي يصور أن النضال الفلسطيني حرب دينية بين المسلمين واليهود في شبه استبعاد للمسيحيين من المعادلة، وربما يفسر عدم سماح إسرائيل للقادة الدينية للذهاب إلى غزة للمساعدة في تخفيف المعاناة بطريقه عمليه.
وفي موسم العطلات، لم يكن هناك سوى القليل من السكان الفلسطينيين في بيت لحم، ومر عيد الميلاد في صمت والحقيقة أن المدينة احتفلت بيوم الخامس والعشرين من ديسمبر ليس باعتباره عيد الميلاد، بل اليوم الثمانين للحرب الشرسة التي اجتاحت فلسطين التاريخية بالكامل، وظلت كنيسة المهد، أقدم موقع مقدس مسيحي في العالم فارغة لا أحد يقف في الصف ليرى المكان الذي ولد فيه السيد المسيح، فاختفت مشاهد حفل إضاءة الشجرة، والسوق المزدحم، والمسيرات الكشفية وتبدلت بمشاهد الدماء والأشلاء، وعند مذبح الكنيسة، توجد كومة من الطوب والحجارة تشبه الركام، مع دمية طفل المزود ملفوفة في العلم الفلسطيني.
وقد تمكن فنانو بيت لحم من إقامة عرض ضخم لرحلة السيد المسيح ومريم العذراء إلى مصر، تحمل القصة أصداء مؤلمة مع أعمال العنف في غزة، حيث تم تهجير 80% من سكان القطاع، وحتى أنهم يواجهون التهديد الوشيك بالطرد الكامل.