الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

العرب والنموذج الأمريكى (1 - 3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

صغير الحجم كبير القيمة؛ هذا هو كتاب المفكر المصري الكبير الدكتور فؤاد زكريا؛ الذي عنوانه «العرب والنموذج الأمريكي» - عدد صفحاته لا تتجاوز الخمسين - أوضح المؤلف من خلال صفحات الكتاب ملامح الصورة الذهنية المرسومة في عقل العرب عن النموذج الأمريكي، فضلًا عن رصده طبيعة علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقتنا العربية رصدًا بالغ الدقة؛ تحدث فؤاد زكريا عن دعم أمريكا للكيان الصهيوني؛ وكأنه يعايش ما يحدث اليوم على أرض قطاع غزة من مذابح وجرائم إسرائيلية بدعم ومساندة الولايات المتحدة الأمريكية. إن هذا الاستبصار العميق الذي يكشف عنه كتاب «العرب والنموذج الأمريكي» هو سمة المفكرين الكبار، وفؤاد زكريا واحدٌ منهم. 
يقول فؤاد زكريا: إن من طبيعة أمريكا أنها بلد يدعو إلى الانبهار. إنها بلد جمع في داخله أكبر كمية من «أفعل التفضيل»: فهى أقوى، وأغنى، وأحدث من كل بلاد العالَم. كل شئ فيها أضخم، وأسبق، وأعظم مما تجده في أي بلد آخر. إنها البلد الذي وصلت فيه سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخيرها لخدمته، وتأكيد سيادة العقل البشري على العالَم المادي وقدرته على تشكيله وفقًا لغاياته، إلى حدٍّ يفوق ما كان يحلم به الفلاسفة والأدباء وأصحاب «المدن الفاضلة» على مرِّ التاريخ. هذه حقيقة لا يقدر على إنكارها أحد. (فؤاد زكريا، العرب والنموذج الأمريكي، ص ٩)
يفرض النموذج الأمريكي نفسه علينا بقوة متزايدة، والأسلوب الأمريكي في الحياة، الذي قد يرفضه الكثيرون في العلن، يُقَابل في السر بإعجاب متزايد، والقوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والإعلامية تبهر أعدادًا متزايدة من العرب، ووصل الأمر إلى حد الاقتناع السائد على أعلى المستويات بأن محاكاة النموذج الأمريكي يمكن أن يحل جميع مشكلات بلد كمصر ويدفعها بخطوات سريعة إلى الأمام مادام هذا النموذج قد جعل من أمريكا ذاتها أعظم وأقوى دول العالَم في مائتي سنة فقط. 
لقد أصبحت «الوصفة» غاية في البساطة: أمريكا بَنَت نفسها في قرنين من الزمان، فأصبحت أعظم بلاد العالَم. ومن ثمَّ فإن اتباعنا للنموذج الأمريكي سيجعلنا بدورنا عظماء متقدمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة. ولقد رأينا كيف أعلن الرئيس المصري محمد أنور السادات أن ٩٩٪ من أوراق اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية. إن لم يكن هذا إنبهارًا وإنسحاقًا وإرتماءً في أحضان أمريكا.. فماذا يكون؟!
هذه هى العقيدة الجديدة التي لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء، بل تتسرب بشتى الوسائل إلى عقول الناس العاديين. ولو تأملنا المحيطين بنا من الناس، لوجدنا نسبة كبيرة منهم تؤمن، داخليًا على الأقل، بفاعلية هذه «الوصفة» وتقف مشدوهةً أمام عظمة النموذج الأمريكي، وتتمنى في قرارة نفسها لو استطعنا أن نحاكيه في مجتمعاتنا. 
يقول فؤاد زكريا: إن القضية التي أودُّ أن أدافع عنها، في هذا الكتاب هى:
أولًا: أن النموذج الأمريكي فريد في نوعه، حدث مرة واحدة ولا يقبل التكرار. 
ثانيًا: أن هذا النموذج الأمريكي، الذي يدعو حقًا إلى الانبهار، مليء بالعيوب الذاتية. 
ثالثًا: أن هذا النموذج لا يصلح لأي بلد في العالَم الثالث، ولا لأي بلد في العالَم العربي بوجه خاص.
ذهب فؤاد زكريا إلى أن المد الأمريكي يزحف، لا إلى سياستنا واقتصادنا فحسب، بل إلى عقولنا أيضًا. قد نغضب من أمريكا حين ينكشف دورها في مساندة إسرائيل بصورة مفضوحة، ولكن في عقول الكثيرين منا إعجابًا صامتًا بها، مقرونًا بالرهبة والانبهار.
يعتقد المؤلف أن الإعجاب المفرط بأمريكا يظهر، في عالمنا العربي (وربما في جميع بلاد العالَم الثالث) بين الفئات الآتية: 
هناك أولًا أصحاب المصالح المباشرة. ولا أعني فقط أولئك الذين ترتبط مكاسبهم الاقتصادية بأمريكا، كأصحاب التوكيلات والشركات المتعاملة مع أمريكا، بل أعني أيضًا أولئك الذين يؤمنون بأن أعمالهم، حتى ولو لم تكن ترتبط مباشرة بأمريكا، لا تزدهر إلا في وجود جو يسوده الود والوئام مع الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الفئة تتخذ موقفًا صريحًا، واضحًا، لا يستطيع أحد أن يلومها عليه، ما دام ينسجم مع أهداف الحياة التي اختارتها لنفسها. 
أما الفئة الثانية فينتمي إليها أشخاص يتسمون بانحراف الوعي الاجتماعي والأخلاقي، فتغطي مشاعرهم ورغباتهم الأنانية على تقييمهم للنمط الأمريكي في الحياة. هؤلاء قد لا يكونون أصحاب مصالح مباشرة مع الأمريكيين، كالفئة السابقة، ولكنهم ينظرون إلى أمريكا على أنها مرادفة للترف، والمتعة الاستهلاكية، والمستوى المعيشي المرتفع، والسيارات الفارهة، والأجهزة الإلكترونية الراقية. 
وتأتي بعد ذلك فئة أولئك الذين ارتبطت حياتهم، في وقت ما بأمريكا، أعني أولئك الذين تلقوا العلم فيها، أو قاموا بزيارات لها، وهؤلاء تعود نسبة كبيرة منهم إلى بلادهم وقد انطبعوا بالطابع الأمريكي في تعاملهم مع الناس، وأخذوا يستخدمون التعبيرات الأمريكية في لغتهم والحركات الأمريكية في سلوكهم، بل إن أعدادًا منهم تعود حاملة معها تحيزات الأمريكيين المريضة ذاتها. ومن هنا كنا نجد نسبة كبيرة ممن دخلوا أمريكا في مقتبل أعمارهم، بغير وعي سياسي واجتماعي متماسك، يجرفهم التيار في طياته، ويعودون إلينا بمظهر أمريكي وعادات وحركات وإيماءات أمريكية، ويحملون معهم، قبل هذا وذاك، إعجابًا غير مشروط، متغلغلًا في أعمق تلافيف أمخاخهم، بالنموذج الأمريكي في جميع المجالات. 
أما الفئة الأخيرة فهم أولئك الذين يتأثرون بالصورة الإعلامية البراقة للحياة الأمريكية. ففي «الثقافة العالمية» التي تولدت عن الثورة المعاصرة في وسائل الإعلام، تحتل نواتج الإعلام الأمريكي موقع الصدارة. وهكذا تُصدِّر أمريكا إلى بلاد العالَم – وبخاصةٍ العالَم الثالث – أفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية واسطواناتها ورقصاتها وأزياءها. وفي هذه النواتج الإعلامية والثقافية تندس صورة برَّاقة للحياة الأمريكية، تمر في الفيلم أو الحلقة التلفزيونية مرورًا عابرًا، ولكنها تؤثر تأثيرًا بالغًا – على المستوى الشعوري واللاشعوري – في المشاهدين، ولاسيما إذا كان الطابع الغالب على حياتهم هو الحرمان. وبمضي الوقت تترسب في أذهانهم صورة أمريكا الضخمة، الفخمة، المترفة، القادرة على كل شئ، والتي لا يقف في وجهها شئ، ويكون لهذه الصورة حتمًا تأثيرها في وعيهم الاجتماعي واختياراتهم السياسية. 
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس