يعد مشروع السد العالي من أعظم مشاريع القرن العشرون، سطر ملحمة تاريخية عظيمة جسدها المصريون بكل بسالة خلف زعيمهم لحماية بلادهم من خطر الفيضان، وعند ذكر السد العالي يتبادر إلى أذهاننا صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر متجسدًا فيه، الذي واجه بشجاعة الحروب الخفية من العالم الغربي ولم يستسلم، فقد حمل على عاتقه مسؤلية حماية المصريون، لمواجهة فيضان النيل، ففي مثل هذا اليوم الـ9 من يناير عام 1960 تم وضع حجر الأساس في السد العالي بأسوان بمساعدة الاتحاد السوفيتي بعد رفض البنك الدولي التمويل.
لماذا رفض البنك الدولي تمويل مشروع السد العالي؟
بداية الفكرة تحديدًا، في 18 أكتوبر 1952 عندما تقدم المهندس المصري اليوناني الأصل "أدريان دانينوس" إلى قيادة مجلس الثورة 1952 بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان؛ لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه، وفي أوائل عام 1954 عرضت شركتان ألمانيتان هندسيتان تصميمًا للمشروع، وأقرت لجنة دولية هذا التصميم في ديسمبر 1954 بعد مراجعته، وتم وضع مواصفات وشروط تنفيذ هذا السد المائي، فأصبحت الفكرة قيد التنفيذ مما جعل الزعيم عبد الناصر يسعى جاهدًا للبحث عن مصادر تمويله، فعرض المشروع على البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وأصدر البنك تقريرًا نشره في يونيو 1955، أكد فيه سلامة المشروع، كما ورد بهذا التقرير اعتماد مصر لـ 8 ملايين دولار؛ لتنفيذ بعض الأعمال التحضيرية للمشروع، وتشمل إنشاء خطوط للسكك الحديدية، ومساكن للعاملين في الموقع.
في 16ديسمبر 1955، وبعد سلسلة من الزيارات الدولية قام بها الدكتور عبدالمنعم القيسوني وزير المالية والتجارة آنذاك، أجرى خلالها العديد من المفاوضات، التي أسفرت عن اتفاق -من حيث المبدأ- أعلنته الخارجية الأمريكية وقتها، بأن يتولى كل من (البنك الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا)، تمويل مشروع السد العالي بتكلفة 1.3 مليار دولار.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فلم يسر العرض (الأمريكي – الإنجليزي) لتمويل السد بسلاسة، بل قيدته شروط وضعتها الدولتان لتنفيذ الاتفاق، أولها هو تحويل مصر ثُلث دخلها القومي لمدة 10 سنوات لبناء السد العالي، وفرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، ووضع ضوابط للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومي، كما اشترطت أمريكا وبريطانيا أيضا، فرض رقابة على مصروفات الحكومة المصرية، وعلى الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية، وألا تقبل مصر قروضا أخرى أو تعقد اتفاقيات في هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولي، وكان آخر الاشتراطات، الاحتفاظ بحق إعادة النظر في سياسة التمويل تجاه المشروع المصري في حالات الضرورة.
أنذاك، انتاب عبد الناصر ثورة غضب عارمة، حيث شعر بأن ماتسعى هاتان الدولتان لتحقيقه يعيد إلى الأذهان الوضع السائد في عهد الخديوي إسماعيل عند إنشاء قناة السويس، إلا أنه رغم الغضب استقبل عبد الناصر "يوجين بلاك" رئيس البنك الدولي في مصر.
وبعد مفاوضات عديدة وافق عبد الناصرعلى أن يكون للبنك الدولي حقوق مقبولة في تفقد الإجراءات التي ستتخذها مصر للحد من التضخم، وعُقد على إثر ذلك اتفاق تم إعلانه في 8 فبراير 1956، يقدم البنك بموجبه قرضًا قيمته 200 مليون دولار، ويتوقف تنفيذه على التوصل إلى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول شروطهما التي أعلناها لتقديم المساعدة.
ولكن بعد 5 شهور من إعلان الاتفاق وتحديدا في ظهر يوم 19 يوليو 1956، أصدر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية “لينكولن وايت”، بيانًا رسميًا أعلن فيه سحب العرض الأمريكي لتمويل مشروع السد العالي.
وأبلغ الرئيس الأمريكي آنذاك "جون فوستر دالاس"، السفير المصري بالولايات المتحدة أحمد حسين، خلال إذاعة البيان، أن الولايات المتحدة لن تساعد في بناء السد العالي، وأن بلاده قررت سحب عرضها لأن اقتصاد مصر لن يستطيع تحمل هذا المشروع.
وكان مبرر الرئيس الأمريكي وقتها، إن الولايات المتحدة تعتقد أن من يبني السد العالي سيكسب كراهية الشعب المصري؛ لأن الأعباء المترتبة عليه ستكون مدمرة وساحقة، وأنه ليس في وسع الشعب المصري أن يتحمل عبء تنفيذ هذا المشروع الضخم.
وتابع "دالاس": إننا في الولايات المتحدة الأمريكية لا نريد أن نكون مكروهين في مصر، وسوف نترك هذه المنفعة للاتحاد السوفيتي إذا كان يعتقد أنه يريد أن يبني السد العالي، رغم الاعتقاد أن الاتحاد السوفيتي لا يملك المصادر الكافية لإنجاز المشروع، ولو تعهد بتنفيذه فإن الدول التابعة له ستتمرد عليه، لأنهم يساعدون مصر ويرفضون تقديم المساعدات المماثلة التي تطلبها الدول التابعة له.
مع الضغط الغربي غير المفهوم، والشروط التعجيزية التي وضعتها تلك الدول لتمويل السد، ومع استمرار الرفض المصري للتدخلات الأجنبية في شأنها الداخلي، واصلت مصر بهدوء خططها التنموية، وردا على انسحاب تمويل السد العالي، قبلت مصر التحدي، وواصل خططها في البناء والنمو والتنمية، بالاعتماد على مواردها، وعلى ثقلها الدولي والإقليمي.
وبالفعل وقعت مصر في 27 ديسمبر 1958، اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي لإقراضها 400 مليون روبل؛ لتنفيذ المرحلة الأولي من السد.
هذه الذكرى تمثل إرادة وعزيمة المصريين الذين رفعوا راية التحدي لبناء السد بمعجزة لا تضاهيها معجزة أخرى، وصدق أو لا تصدق أن تكلفة بناء هذا الصرح الكبير قد بلغت وقتها 415 مليون جنيه فقط وقد شارك في تشييده 35 ألف مهندس وفني وعامل من المصريين و400 خبير روسي من الاتحاد السوفيتي، رغم أنف بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.