الخميس 26 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: شخصيات مسيحية في الأدب المصري.. رياض قلدس شخصية محورية لنجيب محفوظ في السكرية.. تقاسم مع كمال عبد الجواد هموم الوطن وأزمات الواقع المصري

.
.
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

رياض يؤمن بالعلم والفن وصاحب ثقافة علمية وفلسفية رفيعة

قلدس يكتب القصص ويتماهي مع القضايا المصيرية وليس ملحدا

يرى أن الخلاص الجذري رهين بالمزيد من الوعي والتقدم والتماسك والتحرر

 رياض قلدس يؤكد أنه لا مهرب للمسيحيين في مصر من مشاكلهم بمعزل عن النهضة العامة الشاملة

الإحساس بالصدمة شعور مشترك بين الوفدي "المسيحي"  و"المسلم" دون نظر إلى الدين عندهما

 إيمانه الوحيد الراسخ بالعلم والفن ولا مكان للدين في حياة الكاتب القصصي 

 

 يزخر الأدب المصري بالشخصيات المسيحية التي تشكل محورا رئيسيا ومهما من محاور الابداع سواء الروائي أو القصصي وتأتي إبداعات أديب نوبل نجيب محفوظ في مقدمة الكتابات التي ضمت هذه الشخصيات ومنها شخصية رياض قلدس في “ السكرية” إحدى روائعه ضمن ثلاثيته الشهيرة. 

 *رياض قلدس*
ينفرد رياض قلدس، في "السكرية"، بخصوصية لا تجعله فحسب أهم الشخصيات المسيحية التي يقدمها نجيب محفوظ، بل إنه أيضا أحد أهم الشخصيات في عموم عالمه الروائي بمسلميه ومسيحييه.
يعمل رياض مترجما بوزارة المعارف، وهو مثقف وكاتب قصصي من الذين يشاركون في تحرير مجلة "الفكر"، التي ينشر فيها كمال عبد الجواد مقالاته الفلسفية.
رياض طويل القامة، نحيف مستطيل الوجه، متوسط الجبين ممتلىء الشفتين، ذو أنف دقيق وذقن مدبب. منذ اللقاء الأول الذي يجمعهما في مقر المجلة، يتساءل كمال :"هل آن للمكان الذي خلا بذهاب حسين شداد أن يُشغل؟!".
يحتاج كمال إلى صديق يتفاعل مع همومه واهتماماته الفكرية والروحية، ويبرهن التطور السريع للعلاقة بينهما على أن الصداقة الجديدة أقوى وأعمق تأثيرا من تلك التي كانت تجمع بين كمال وحسين شداد في مرحلة الدراسة الثانوية، وفي حواراتهما السياسية والثقافية يتطرقان لمناقشة قضايا شتى شائكة دون حساسية أو حرج، كما أن الحياة الشخصية ليست بعيدة عن المناقشة وتبادل الآراء.
رياض مسيحي لا ديني، ينتقل من الشك في الدين إلى الكفر به، ويبقى إيمانه الوحيد الراسخ بالعلم والفن. لا مكان للدين في حياة الكاتب القصصي ذي الثقافة العلمية والفلسفية الرفيعة، لكنه ليس ملحدا بالمعنى الشامل الحاسم الذي تعنيه الكلمة، أو على حد تعبيره :"الدين ملك الناس، أما الله فلا علم لنا به،  الذي يستطيع أن يقول لا أومن بالله، أو يقول أومن بالله؟!، الأنبياء هم المؤمنون الحقيقيون، وذلك أنهم رأوه أو سمعوه أو خاطبوا رسل وحيه!".
لا ينشغل رياض بالدين ولا يبدي اهتماما حقيقيا جادا به، ذلك أن تركيزه ينصب على العلم والفن في المقام الأول :"العلم لغة العقول، والفن لغة الشخصية الإنسانية جميعا!".
يسخر كمال من رؤيته هذه التي تستعين بلغة الشعر، ويأبى رياض إلا أن يصر على قناعته التي يرى أنها تمثل جوهر إيمانه وخلاصة وجوده :"العلم يجمع البشر في نور أفكاره، والفن يجمعهم في عاطفة سامية إنسانية، وكلاهما يطور البشرية ويدفعها إلى مستقبل أفضل".
المسألة عند رياض لا تقتصر على قصص قصيرة يكتبها أو مسرحيات عالمية يترجمها ويلخصها، ذلك أن عملية الإبداع الفني تمثل في منظومته الفكرية ضرورة للتعايش مع منغصات الوجود الإنساني وألغازه ومفارقاته ومآسيه :"أتستطيع أن  تعيش في وحدة مطلقة؟، لا بد من النجوى، من العزاء، من المسرة، من الهداية، من النور، من الرحلة في أنحاء المعمورة والنفس، هذا هو الفن".
يأخذ كمال على صديقه الإسراف في الاهتمام بالقصة، مهملا ثقافته العلمية التي تقترب من معارف المتخصصين، ورياض بدوره يرفض الاتهام ولا يجد تناقضا يستدعي النقد والمؤاخذة، فهو يعتمد على العلم لتطوير إبداعه، ويراهن على التكامل والتجانس بين محوري حياته :"أخذت من العلم للفن عبادة الحقيقة، والإخلاص لها، ومواجهتها بشجاعة مهما تكن مرة، والنزاهة في الحكم، والتسامح الشامل مع المخلوقات".
الفن عند رياض نشاط جدي مثل العلم تماما، والحملات التهكمية الساخرة التي يشنها كمال لا تؤثر على جملة الثوابت التي يتمسك بها، لكن الكاتب القصصي المسيحي لا ينفصل عن الواقع والقوانين الاجتماعية الصارمة التي تحكمه، ولا يندفع في التعبير بلا حسابات دقيقة عندما يتعلق الأمر بمعالجة القضايا الشائكة التي تثير الجدل وتفجر المخاوف والهواجس، فإذ يقترح كمال عليه أن يناقش في قصصه "مشكلة الأقباط والمسلمين"، يعلق على الاقتراح الجريء الشائك بقوله :"أخاف سوء الفهم!".
لا شك أن "سوء الفهم" وارد بقوة عند التعرض لقضية معقدة بالغة الحساسية مثل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، ذلك أن الأغلبية المسلمة لن تشعر بالارتياح، وقد لا تفترض أيضا حسن النية أو سلامة القصد.
من ناحية أخرى، لا يروق التورط في الانتماء الأيديولوجي للكاتب الذي يسمو بالفن ويجله عن الهبوط إلى ساحة التعبير الزاعق المباشر الفج، حيث الانتصار للأفكار والشعارات دون الإنسان :"لا شك في احتقاري للفاشستية والنازية وكل النظم الدكتاتورية، أما الشيوعية فخليقة بأن تخلق عالما خاليا من مآسي الخلافات العنصرية والدينية والمنازعات الطبقية، بيد أن اهتمامي الأول مركز في فني".
يستمد رياض شخوص وموضوعات قصصه من نثريات الواقع اليومي، ولا يخفي انحيازه للبسطاء والكادحين من العمال والفلاحين، محتفظا في الوقت نفسه بنزعة استقلالية تنأى به عن المباشرة والمعالجة الفجة، لكن انصرافه عن الصراع الأيديولوجي الصريح لا يروق للماركسية المتشددة سوسن حماد، ولا تبدي الإعجاب بقصصه :"ليست بالقصص المنشودة، إنها واقعية وصفية تحليلية، ولا تتقدم عن ذلك خطوة، لا توجيه فيها ولا تبشير!".
رياض قلدس يساري تقدمي على طريقته الخاصة، وإخلاصه للعلم والفن لا يتعارض مع انشغاله بالسياسة في إطارها الوطني، فهو وفدي مخلص يجد في الحزب الشعبي الكبير أداة فعالة لتقدم الوطن وتحقيق الوحدة التي ترفض التعصب والطائفية.

حول مكرم عبيد 


بعد انشقاق السعديين بزعامة أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، يتعرض السياسي والزعيم الوفدي الكبير مكرم عبيد لإهانات وإساءات من المنشقين، ويبدو استياء رياض معبرا عن مزيج من الغضبين الوفدي والمسيحي، ويتجلى ذلك بوضوح في قوله لكمال:
"- أيمكن أن ننسى الإهانة التي تلقاها مكرم في ميدان عابدين؟ وهذه الإقالة المجرمة، سب وقذف وبصقة في وجه الأمة؟ والحقد الأعمى يجعل البعض يهللون.. وا حسرتاه..
فقال له كمال مداعبا:
- أنت غاضب لمكرم!..
فقال رياض دون تردد:
- إن الأقباط جميعا وفديون، ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة، ليس حزبا دينيا تركيا كالحزب الوطني، ولكنه حزب القومية التي تجعل من مصر وطنا حرا للمصريين على اختلاف عناصرهم وأديانهم، أعداء الشعب يعلمون ذلك، ولذلك كان الأقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي، وسيعانون ذلك منذ اليوم".
على الرغم من علمانيته ووعيه السياسي والفكري التقدمي، يصل الأمر برياض إلى التوحيد بين مكرم والمسيحيين والوفد، وعلامة ذلك أن إهانة مكرم عنده تعني إهانة الوفد، وتتضمن تهديدا خفيا للمسيحيين الذين يرى رياض أنهم "جميعا" من مؤيدي الوفد!.
عندما يدور الزمن دورته وينشق مكرم بدوره عن الوفد، تطل المخاوف والأحزان الوفدية والمسيحية معا، ويهمس رياض في أذن كمال:
"- يُفصل مكرم من الوفد! كيف تقع هذه الخوارق.
ولم يكن كمال قد أفاق من الخبر كذلك، فهز رأسه في وجوم دون أن ينبس.
- إنها كارثة قومية يا كمال، ما كان ينبغي أن تتهاوى الأمور حتى هذا الحضيض..
- نعم، ولكن من المسئول؟.
- النحاس! قد يكون مكرم عصبيا، ولكن الفساد الذي تسرب إلى الحكومة أمر واقع لا يصح السكوت عليه".
الإحساس بالصدمة شعور مشترك بين الوفدي "المسيحي" رياض قلدس والوفدي "المسلم" كمال عبد الجواد، دون نظر إلى أن الدين عندهما لا يمثل شيئا ذا بال، لكن الفارق الجوهري يتجلى في تعاطف رياض غير المحدود مع مكرم وتحامله على النحاس، الذي يتحمل عنده مسئولية الخلاف المفضي إلى الانشقاق، وينعكس توتر رياض على مفرداته التي تكشف عن طغيان القلق وعمق الإحساس بالفجيعة، ففصل مكرم من "الخوارق" و"كارثة قومية" و"تهاو إلى الحضيض"!.
لا تخلو المخاوف التي يبديها من حق، ذلك أن المناخ العام مليء بغبار الاحتقان الطائفي والتعصب المرذول، وفي هذا السياق يتساءل كمال "متغابيا"، لأنه يعرف درجة الصدق النسبي في كلمات صديقه :"لماذا تدفع بالأمر خارج حدود الطبيعة؟ مكرم ليس الأقباط، والأقباط ليسوا مكرم. إنه شخص ذهب، أما مبدأ الوفد القومي فلن يذهب".
الثقة "النظرية" المفرطة في مقولة كمال لا تقنع الوفدي المسيحي الذي يفكر في معطيات الواقع الفعلي منصرفا عن االشعارات البراقة الفضفاضة، وهو واقع يربط بين مكرم عبيد وعقيدته المسيحية، ولذلك يهز رأسه في أسف ويرد على كمال ساخرا :"هذا ما قد يُكتب في الجرائد، أما الحقيقة فهي ما أعني. لقد شعر الأقباط بأنهم طُردوا من الوفد وهم يتلمسون الأمان، وأخشى ألا يظفروا به أبدا".
ليست المسألة هنا أن يكون رياض قلدس مسيحيا متدينا ملتزما حتى ينجح في التعبير الدقيق عن الهموم والهواجس التي تسيطر على الأغلبية الساحقة من المصريين المسيحيين، فالأهمية الحقيقية تنبع من انتمائه "العاطفي" و"العرقي" الكامل إلى المسيحيين، ما يقترب به من الوقوف على حافة الإيمان بفكرة القومية المسيحية، وهي فكرة بالغة الخطورة :"إني حر وقبطي في آن، بل إني لا ديني وقبطي معا، أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت. ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومي؟. شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة كما أرادها سعد زغلول، إن النحاس مسلم ديّن، ولكنه قومي بكل معنى الكلمة أيضا، فلا نشعر حياله إلا بأننا مصريون لا مسلم ولا قبطي، بوسعي أن أعيش سعيدا دون أن أكدر صفوي بهذه الأفكار، ولكن الحياة الحقة مسئولية في الوقت نفسه".
مسيحية رياض لا تتجسد عبر أداء الطقوس الدينية التقليدية والتردد على الكنيسة، لكنها تتحقق بتمامها عبر الانتماء العاطفي والعقلي إلى الكتلة المسيحية العريضة. وفديته الصميمة تدفعه إلى تبني رؤية قومية شاملة، قادرة على نفي وتجاوز المشكلة الدينية، لكن متغيرات السياسة هي التي تفسد الانسجام والتوافق.
التعصب الديني، بالمعنى التقليدي الشائع، ليس واردا بطبيعة الحال عند من لا يؤمنون بالدين، ومشاعر رياض العاطفية تتجه إلى "قومه" المسيحيين "المهددين" من وجهة نظره بالاضطهاد والقمع لأسباب دينية سياسية. لا شيء يحول دون انتقال المسيحية من دين إلى قومية إلا وجود حزب شعبي قوي كالوفد، يرفع رايات الهوية المصرية الخالصة، ويرفض التمييز الديني البغيض، وينتصر للمواطنة والدولة المدنية، فأي  مصير يؤول إليه الوطن، والمواطنون بالتبعية، حال تراجع الحزب الشعبي الكبير عن ثوابته الراسخة؟!.
تتعرض وفدية رياض قلدس لزلزال مدمر بعد انشقاق الرمز مكرم عبيد، وكم يبدو "الوفدي المسيحي" أقرب إلى "مسيحي وفدي" وهو يشكو لصديقه المؤتمن من المخاوف والهواجس التي تنتابه وتسيطر عليه، وتتجاوز شخصه إلى "قومه" جميعا :"لقد جاءتني السياسة أخيرا بعقدة جديدة كعقدة الدين، فكما كنت أنبذ الدين بعقلي وأميل إليه بقلبي بصفته رابطة قومية فكذلك سأنبذ الوفد بقلبي وأميل إليه بعقلي، إذا قلت إني وفدي كذبت قلبي وإذا قلت إني عدو للوفد خنت عقلي، إنها كارثة لم تخطر لي على بال، والظاهر أنه مقضيّ علينا نحن الأقباط بأن نعيش في شخصيات منقسمة أبدا، لو كانت مجموعتنا فردا واحدا لجن!".
هل يبالغ رياض في التعبير عن مخاوفه؟، وهل يقف الأقباط جميعا على حافة الجنون كما يقول؟. قد يكون صحيحا أن مكرم عبيد رجل سياسة لا يعبر عن المصريين المسيحيين جميعا، لكن الصحيح أيضا هو صعوبة الفصل بين الهويتين الدينية والسياسية في مناخ مضطرب كهذا. رسائل الطمأنينة التي يبثها كمال "المسلم" لا تفلح في الإقناع، ويبدو رياض متألما مضطربا مسكونا بالحيرة وهو يبوح بالفكرة الغرائبية التي تراوده :"لو عشت في عصر الفتح الإسلامي وتكشف لي الغيب لدعوت الأقباط جميعا إلى الدخول في دين الله!".
المثير للدهشة بحق، أن رياض قلدس متأثر بالتحولات والعواصف السياسية، يناقض نفسه بعبارته هذه ويتنكر لمقولة سابقة تنم عن الوعي والنضج والإدراك الدقيق لطبيعة وجوهر المشكلة، وتقدم تحليلا دقيقا مكثفا لعلاج ما يُقال عن الهم الطائفي والاحتقان الديني :"مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعب، إذا اُضطهد اُضطهدنا، وإذا تحرر تحررنا".
الحديث عن خصوصية قبطية لا معنى له ولا منطق يحكمه، فالمشكلة وطنية في المقام الأول، والخلاص الجذري رهين بالمزيد من الوعي والتقدم والتماسك والتحرر. لا مهرب للمسيحيين في مصر من مشاكلهم بمعزل عن النهضة العامة الشاملة، فما الذي يتغير بخروج مكرم من الوفد، مع الإقرار بخطورة انشقاقه وما يترتب عليه من آثار سلبية، حتى يتطرق الحديث إلى الجنون الجمعي، وتظهر أفكار مسرفة في تطرفها مثل مقولة القومية المسيحية؟!.
اللا ديني رياض قلدس ليس مسيحيا متدينا، ولا يعبر بسلوكه هذا عن الأغلبية المسيحية في مصر، حيث شيوع الالتزام بالشعائر والطقوس، لكنه يجسد موضوعيا جانبا لا يمكن إنكاره من الهم المسيحي، ويعكس الهواجس والمخاوف التي لا تظهر إلا داخل البيوت المغلقة البعيدة عن أعين الرقباء، ومن هنا أهميته في الكشف عن المخبوء والمستور.
قبل ظهور رياض، تخلو حياة كمال من الأصدقاء، وسرعان ما يتحول المثقف الكاتب إلى الصديق الجديد البديل، والوحيد أيضا، الذي يملأ الفراغ الروحي ويلبي الاحتياجات الثقافية والفكرية لكمال :"كانا سعيدين بصداقتهما، وقد قال كمال لنفسه مرة "جعلت أفقد حسين شداد أعواما، وظل مكانه شاغرا، حتى ملأه رياض قلدس، ففي محضره تستيقظ روحه وتستشعر ذلك الانبثاق الذي يبلغ نشوته في عناق الفكر المتبادل، هذا على الرغم من أنهما لم يكونا شيئا واحدا، وإن كانا متكاملين فيما بدا. وظلت صداقتهما شعورا متبادلا في صمت، لم ينوها به، فلم يقل أحدهما للآخر "أنت الصديق"، ولا قال له "لا أتصور الحياة بدونك"، ولكن كان ذلك كذلك...".
ليس مستغربا، وهذه مكانة رياض عند كمال، أن يتخوف من شروع صديقه الوحيد في الزواج :"فمن المحتمل جدا ألا يرى رياض -إذا تزوج- إلا في القليل النادر، وربما تغير وتبدل فيصبح صديقا بالمراسلة، وهو وديع رقيق فما أسهل هضمه، ولكن كيف تمضي الحياة بدونه؟".
مخاوف كمال مبررة بكراهيته العميقة لمؤسسة الزواج من ناحية ومعايشته لتجارب معارفه المتزوجين من ناحية أخرى، لكن جانبا مهما من خوفه يقترن بإدراكه الصحيح لطبيعة شخصية رياض، الوديع الذي يسهل هضمه!.
العلاقة بين الصديقين لا تقتصر على المناقشات الثقافية والسياسية، وتمتد إلى الجوانب الشخصية الإنسانية وثيقة الصلة بنثريات الحياة اليومية. يشربان معا، ويجلسان في القهاوي، ومع اقتراب إسدال الستار على حياة أمينة، يبادر رياض بزيارة صديقه للسؤال عن أمه ودعمه في أزمة الموت القريب:
"- سألت عنك في المدرسة فأخبرني السكرتير بالخبر، كيف حالها؟.
- أُصيبت بشلل وأخبرني الطبيب بأنها ستنتهي في ظرف ثلاثة أيام.
فوجم رياض وتساءل:
- أليس هناك حيلة ما؟".
ما الحيلة في مواجهة الموت؟!. لا شيء إلا التفكير في جوهر الحياة وحصادها، أو كما يقول رياض معقبا على حديث كمال عن طبيعة العلاقة بين الحياة والموت :"فلنسأل أنفسنا عند الموت -أي موت- ماذا صنعنا بحياتنا؟".
فصل من كتاب" شخصيات مسيحية فى الأدب المصرى"