ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أن شركاء وحلفاء واشنطن يشعرون بالقلق من إمكانية عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خاصة وأنهم غير مستعدين لمواجهة الاحتمال المتمثل في عالم غير مرتبط بالقوة والقيادة الأمريكية.. ولكن، إذا كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية مدفوعة في المقام الأول بالمشكلات الداخلية، فالسؤال الأكثر إلحاحا في هذا المقام يتعلق بما إذا كانت تؤثر حقا على السياسة الخارجية الأمريكية؟
وأشارت المجلة إلى أنه للإجابة على هذا السؤال، هناك وجهة نظر ترى أن الاختيار بين المرشحين الرئيسيين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لا يشكل أي أهمية عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.. ووفقا لهذه الرؤية، يرى البعض أن الرئيس الأمريكي جو بايدن واصل سياسات ترامب الخارجية المتمثلة في اتخاذ موقف متشدد تجاه الصين، وتم وصف أجندته الحمائية ضد المنتجات الصينية، بأنها نسخة محدثة من رؤية ترامب "أمريكا أولا".. كما أن سياسة الولايات المتحدة تعكس بشكل عام إجماعا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وأنه في ظل الأبعاد الحرجة للسياسة الأمريكية، فإن بايدن وترامب أو أي مرشح آخر سيفعلون الكثير من الأمور المتشابهة على الساحة الدولية.
ولكن يختلف البعض مع هذه الرؤية، ويرون أن أولئك الذين يزعمون أن سياسات بايدن تجاه الصين هي مجرد استمرار لسياسة ترامب مجرد تبسيط للأمور بشكل كبير، حيث كان أسلوب ترامب وسيظل مفعما بالحيوية، وفوضويا، ومثيرا للاضطراب، في حين سعى بايدن إلى سياسة دبلوماسية رفيعة المستوى مصممة بعناية لإدارة التوترات ومنع الحوادث أو سوء الفهم بحيث لا تؤدي عن غير قصد إلى صراع.
كما ركزت استراتيجية ترامب في ترويض النفوذ الاقتصادي للصين على الرسوم الجمركية بشكل شبه حصري، فيما سعى بايدن منذ توليه مقاليد السلطة إلى تقليل المخاطر دون فصل الاقتصاد الأمريكي عن الصين، وتقوم إدارته بذلك من خلال استراتيجية تجمع بين ضوابط الصادرات على التكنولوجيا الحساسة، وقيود الاستثمار، والرسوم الجمركية أيضا.
وبالنسبة لتايوان، يختلف ترامب وبايدن في هذا الملف أيضا، حيث أشار ترامب إلى أنه لن يدافع عن الجزيرة ذات الحكم الذاتي في مواجهة (أي) هجوم صيني، فيما أدلى بايدن بعدة تصريحات تشير إلى أن التزامه بالدفاع عن تايوان أقوى بكثير.
لذا، إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، فستكون العواقب على العلاقات بين الولايات المتحدة والصين وخيمة، وسيشعر شركاء أمريكا في المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا بالتأثيرات، وسيضطرون حينها إلى اتخاذ خيار غير مريح بين الولايات المتحدة والصين.
كما أن الخطر الأكبر من عودة ترامب إلى البيت الأبيض – وفقا للمجلة - يتمثل في عودة ما يعرف بـ"الرئاسة غير المقيدة" في ملف السياسة الخارجية، والتي تتمثل في قدرة ترامب على قيادة سياسة غير خاضعة للكونجرس بشكل كبير. ويبرز في هذا الإطار، قدرة ترامب في فترة حكمه على سحب الولايات المتحدة من العديد من المنظمات متعددة الأطراف الرئيسية، مع القليل من المعارضة من الكونجرس بشكل مثير للدهشة.
ودللت "فورين بوليسي" على تأثير سيد البيت الأبيض على السياسة الخارجية والعالم بصفة عامة، بالإشارة إلى انتخابات عام 2000، وقرار المحكمة العليا بحسم الجدل حول نتيجة الانتخابات، وتسليم البيت الأبيض إلى جورج دبليو بوش على حساب آل جور في واحدة من أكثر قرارات المحكمة أهمية على الإطلاق بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المستقبل، حيث خلقت هجمات 11 سبتمبر 2001 نافذة من الفرص للرئيس الأمريكي لاتخاذ خيارات سياسية جريئة، إذ كان من الصعب تخيل آل جور يذهب أيضا إلى الحرب في العراق لو انتخب رئيسا.
وبالعودة إلى انتخابات 2024 وما ستسفر عنه، فالاختلاف الأساسي بين الجانبين سيكون في الممارسات الدبلوماسية وأسلوب إدارة دور الولايات المتحدة في العالم، الذي يعد مهما جدا، ومن المرجح أن يؤثر على أوروبا أكثر من غيرها، حيث إن بايدن هو الرئيس الأكثر تأييدا للعلاقات العابرة للأطلسي منذ الحرب الباردة، في حين أن ترامب، يتهم أوروبا باستمرار بأنها تستفيد من السخاء الأمريكي.
وفي حالة أوكرانيا، فإن ترامب حال الوصول للسلطة مجددا، سيهدد بوقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وربما سحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (ناتو). وحتى إذا لم يفعل ذلك، فإن التهديد اليومي بخروج الولايات المتحدة من الناتو سيخلق مستوى من عدم الاستقرار والاضطراب من شأنه أن يقلل بشكل كبير من الدعم والفوائد التي يوفرها الحلف للأعضاء.
وبالنسبة للتعددية، يختلف الرجلان أيضا اختلافا جذريا عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ. والأكثر إثارة للقلق تحت إدارة ترامب الثانية، فإن التزام أمريكا بالتعددية كإطار لمواجهة الأزمات الدولية، سيتعرض للهجوم المباشر من حيث المبدأ والممارسة. فلأكثر من سبعة عقود، كانت الولايات المتحدة العمود الفقري لنظام متعدد الأطراف، وتتمثل الطموحات التي تدعم هذا النظام في تحقيق المزيد من السلام والاستقرار والازدهار، خاصة وأن واشنطن تعتقد أن فرص النجاح أكبر إذا عملت مع الشركاء بدلا من العمل بمفردها. وعلى الرغم من أن النظام متعدد الأطراف المدعوم من الولايات المتحدة كان غير مثالي، إلا أنه أدرج مجموعة من المبادئ والقواعد التي ساعدت في توفير مزيد من التنبؤ والشفافية والثقة.
وتجدر هنا الإشارة إلى أن عالم اليوم يواجه مشكلات لا يمكن التعامل معها من قبل أي دولة منفردة مهما كانت قوية، وقد أظهرت حرب روسيا في أوكرانيا قوة وضرورة الوحدة الغربية.
كما أن جائحة كوفيد-19 أثبتت أن الأمراض ستكون دائما أكثر عالمية من الاستجابات المصممة لهزيمتها. فلم تفعل قومية اللقاحات الكثير للمساعدة في تعزيز التعافي العالمي. وبدلا من ذلك، أدى ذلك إلى عزل الدول في الجنوب العالمي، ما أدى إلى تقليل قدرة الغرب على تحقيق أهدافه الجيوسياسية. وكذلك الحال بالنسبة للهجرة غير الخاضعة للإدارة، سواء على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة أو عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث إن مخاطرها لا تهدد بخلق مشكلة إنسانية فقط، بل تهدد أيضا بأزمة سياسية في أوروبا والولايات المتحدة. وإن الحاجة إلى بذل جهد جديد متعدد الأطراف لإدارة هذه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الحرجة أصبحت ملحة بشكل متزايد.
ولكن في حالة ترامب، نجد أنه في عام 2016 وقبل دخوله البيت الأبيض، دعم بقوة منتقدي التعددية، وربطها بصعود الصين والآثار السلبية الناتجة عن العولمة على العمال الأمريكيين، وألقى باللوم على منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
وبمجرد وصوله إلى السلطة، قام بتحويل انتقاداته إلى قرارات تنفيذية. وفي ظل قيادته، تآكلت قابلية التنبؤ بالتزامات واشنطن متعددة الأطراف مع قرار الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، رغم أن التغير المناخي يتسبب في دمار في العديد من الدول التي لا تشكل مصدرا أساسيا لأسبابه.
كما أنه طوال فترة رئاسته، شن ترامب سلسلة من الهجمات على حلف شمال الأطلسي، وهدد بحرب تجارية مع أوروبا، وأدخل قراره المفاجئ بسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني درجة جديدة من عدم الاستقرار في علاقة أمريكا مع أوروبا، والتي تستمر تأثيراتها حتى الآن.
وأشارت "فورين بوليسي" إلى أنه يجب أيضا تدارك أنه منذ ترك ترامب منصبه في عام 2021، تضافرت عوامل متعددة لتسريع وتعميق وتكثيف استياء الدول الفقيرة من الولايات المتحدة، لاسيما مع تفاقم نزعة اللقاح القومية في الغرب وفشله في تقديم استجابة مادية كافية لمساعدة دول الجنوب العالمي على التعامل مع تأثيرات التضخم وأزمة الديون بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات التي أعقبت ذلك.
كما أن العديد من الأشخاص في جميع أنحاء العالم النامي ينتقدون واشنطن بشدة لتبنيها مجموعة من المعايير الدولية التي لم تلتزم بها هي نفسها، مثل احترام سيادة الدولة وحماية المدنيين، وترويجها لهذه المعايير بشكل انتقائي وغير متساو. وقد عززت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس هذه المشاعر، حيث أدى الدعم الأمريكي القوي لإسرائيل، مع القليل من الأدلة على ضبط النفس، وتصاعد عدد القتلى الفلسطينيين، إلى تفاقم المشاعر المعادية لأمريكا، وأذكى المزيد من الاتهامات الموجهة لها بالنفاق.
ومن بين أسباب تصاعد حدة الانتقادات لواشنطن أيضا فشلها في حل مشكلة المعايير غير المتكافئة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والنفوذ غير المتناسب الذي تمارسه في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي يرجع جزئيا إلى التوزيع المنحرف لحقوق التصويت.
وبالعودة إلى المرشحين الرئيسيين للانتخابات الأمريكية، نوهت "فورين بوليسي" إلى أن المرشحين يقدمان خيارا بين رؤيتين مختلفتين جذريا للنظام العالمي المستقبلي، إحداهما، يقدمها بايدن، وتضع الشركاء والشراكات في محور اهتمام واستراتيجية الولايات المتحدة، وتسعى إلى إصلاح الإطار متعدد الأطراف متى أمكن بالشراكة مع الآخرين.
في حين أن الرؤية الثانية التي يروج لها ترامب، ترى أن النظام الحالي يتناقض مع مصالح الولايات المتحدة، وبدلا من محاولة إصلاح الإطار الحالي من المؤسسات متعددة الأطراف أو بناء هياكل مؤسسية أصغر وأكثر مرونة، فإن الرؤية تعتمد على سياسات معاملاتية ونظام (معنا أم ضدنا)، وهو ما يعني السعي إلى تقويض النظام الدولي، خاصة وأن شكوك ترامب في التعددية "أيديولوجية بقدر ما هي تجريبية".
وعليه، وحيث إن أوروبا استفادت أكثر من أي منطقة أخرى في العالم خلال سبعة عقود من الاستثمار الأمريكي في نظام دولي يعتمد على التعددية، فإن ولاية ثانية لترامب في البيت الأبيض يمكن أن تغير هذا الوضع بسرعة كبيرة، لاسيما بالنسبة لحرب أوكرانيا التي أدت إلى تصاعد الوحدة عبر الأطلسي، وأكدت التزام الولايات المتحدة بحلف شمال الأطلسي والأمن عبر الأطلسي، حيث من المحتمل أن يتخلى ترامب عن كليهما ويسعى مرة أخرى لجعل ألمانيا منبوذة والرئيس الروسي فلاديمير بوتين صديقا.
كما يمكن أن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا إلى عكس الأمور في أوكرانيا (لصالح روسيا)، ما يترك أوروبا عرضة للخطر مع مهمة شاقة للمساعدة في الدفاع عن أوكرانيا أولا ثم إعادة بنائها.
ونبهت المجلة الأمريكية إلى أن كل دول العالم ربما لا تشعر بالقلق من ولاية ترامب الثانية، حيث إن المستاءين من النفوذ الأمريكي والنظام متعدد الأطراف الذي يقوده الغرب قد يستمتعون بتقسيم هذا النظام إلى كتلتين واحدة للغرب وأخرى للبقية. وتأتي الصين وروسيا على رأس هذه القائمة.
وختاما، فإن الوقت الحالي هو المناسب للتفكير استراتيجيا، وتكتيكيا، حول كيفية الاستفادة من الولايات المتحدة القوية. لذا، يتعين على أوروبا أن تفكر في الكيفية التي يمكن بها أن تصبح شريكا أساسيا للولايات المتحدة. ويتعين كذلك مراعاة أن توبيخ الزعماء بسبب سجلاتهم في مجال حقوق الإنسان أو بسبب الفساد لن يكون له صدى يذكر في غياب ديمقراطية سليمة في الداخل الأمريكي، والتزام قوي بتوفير الدعم المادي للحد من آثار ارتفاع الديون والمناخ والكوارث المرتبطة بها، ووجود فجوة في البنية التحتية بقيمة 40 تريليون دولار، ونقص في الغذاء. كما أنه يتعين على أوروبا أيضا ألا تسمح لنفسها بأن تصبح غير ذات أهمية في الحرب بين إسرائيل وحماس، بل يتعين عليها أن تعمل على توفير الإغاثة الإنسانية وتسهيل التقدم نحو حل سياسي واقعي ومستدام. ففي حين أنه قد لا يكون لبقية العالم حق التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إلا أنها انتخابات مؤثرة للغاية عالميا، سيما مع احتمالية وصول إدارة أمريكية غير منتظمة، ولا يمكن التنبؤ بها، وغير منضبطة.