القاهرة.. مدينة باهرة، لم تفقد نضارتها ورونقها، أو بريق آثارها وعظمة تراثها على مر الزمان، فمنذ عرفت وهي متألقة بأسماء حاراتها، وعناوين شوارعها، وحكايات أزقتها، وروايات دروبها العامرة في سيرة غناء عطرة يفوح منها عبق الأصالة والتراث الذي لا يزال حيًا على ألسنة أهلها، وحوادث تاريخها ونوادر رجالها وتُجارها وصُناعها المهرة المُخلصين.
في كل عام يتجدد الحديث عن عمق الثقافة، وعظمة البناء، وعراقة التاريخ في المدينة الخالدة، التي فتحت أبوابها لزوارها وضيوفها، وقهرت كل من جاءها معتديًا غاصبًا، ولا يمكننا أن نغفل الحديث عن عواصم مصر العظيمة منذ عصر ما بعد الأسرات وصولًا للعاصمة الأطول عمرًا القاهرة.
الفسطاط
شهدت مصر في العصر الإسلامي عمران عدة عواصم، أولها مدينة الفسطاط، التي بناها عمرو بن العاص، واتفق المؤرخون أن بداية هذا البناء كانت عام ٢١ من الهجرة.
كان الداعي إلى بناء الفسطاط، هو أن يكون هناك مقر للقادمين الجُدد في جيش عمرو، ويحدث الاختلاط تدريجيًا بينهم وبين أهل مصر؛ وكذلك رغبة من الخليفة عمر بن الخطاب ألا يتخذ عمرو من الإسكندرية عاصمة للبلاد، لبعدها عن خطوط الإمداد مع عاصمة الدولة الإسلامية الناشئة -آنذاك- في المدينة المنورة. وامتد عمران الفسطاط واتسع، وتحدث المؤرخون عن دورها ومنشآتها، ومنها تم إدارة شئون البلاد في مصر بزمن الخلفاء الراشدين، ثم طوال الدولة الأموية، حتى نهايتها التي وضعها العباسيون، عندما حاربوا آخر حكامها وهو مروان بن محمد، والذي طاردوه حتى الفسطاط، ونالوا منه عند أبو صير.
دار الإمارة
عندما انتقل الحكم إلى بني العباس، عملوا على إنشاء عاصمة جديدة لهم في مصر، وهي مدينة العسكر، وأطلق عليها هذا الاسم لأن الإقامة فيها في البداية كانت مقتصرة على الجنود، ثم اتسع عمرانها، وكان ذلك في عام ١٣٣هـ. وبنى رجال العباسيين، ومنهم صالح بن علي «دار الإمارة»، ثم جاء الفضل بن صالح وبنى جامع العسكر، وتلك العاصمة اندثرت بكاملها، ولم يبق منها شيء.
القطائع
من بعد الفسطاط والعسكر جاءت القطائع، والتي أمر بإنشائها أحمد بن طولون، الذي كان موفدًا من قِبل العباسيين. وقتها، وصل إلى إمارة مصر أحد الجند الأتراك من رجال الخليفة المعتز بن المتوكل، واسمه «باكباك»، وكان معه أحمد بن طولون شابًا، وقد جعله «باكباك» مسئولًا عن الحامية العسكرية في الفسطاط. ثم وصل ابن طولون لإمارة البلاد، ثم استقل بها، ورأى أن تكون له عاصمة جديدة، واختار لها مكانًا إلى الشمال من الفسطاط والعسكر، لكي تسع جنده الذين تكاثروا مع مرور الوقت، وكان ذلك في عام ٢٥٦ هـ.
إنشاء القاهرة
تمر الأعوام، وكانت الدولة الفاطمية - جارة مصر في الشمال الأفريقي - قد مدت نفوذها حتى المحيط الأطلنطي غربًا، وكان الفاطميون يحلمون بضم مصر إلى ملكهم. وقد حاول بالفعل الخليفة أبوالمعز لدين الله الفاطمي وجنده أن يضموا مصر إلى حدود بلادهم فلم يستطيعوا، بينما نجح في ذلك المعز لدين الله الفاطمي، حيث أرسل جيوشه بقيادة جوهر الصقلي؛ والذي تعود جذوره إلى الجزيرة الشهيرة في البحر المتوسط، وكانت لفترة تحت الحكم الإسلامي.
في ذلك الوقت، كانت مصر تخضع لحكم الإخشيديين، الذين ورثوا الطولونيين، وكانت مصر تُعاني من ضعف اقتصادي شديد. لذا، نجح جوهر الصقلي هذه المرة ودخل مصر عام ٣٥٨هـ.
وصل «الصقلي» إلى الإسكندرية واستولى عليها بسهولة، ثم زحف إلى الجيزة، وسحق الجيوش التي كانت تنتظره، وعبر النيل ودخل الفسطاط، وظل سائرًا حتى عسكر في سهل ركلي إلى الشمال من الفسطاط. وكان يحد السهل من الشرق جبل المقطم، ومن الغرب الخليج، وكان سهلًا خاليًا من البناء، إلا من بضعة بساتين كافور الإخشيدي، ودير يُقال له دير العظام، وحصنًا صغيرًا يُسمى «قصر الشوك».
كان اليوم الذي وصل فيه القائد الفاطمي إلى ذلك السهل الرملي قد شهد اختياره لموضع بناء عاصمة جديدة ستكون هي الرابعة لمصر الإسلامية. وفي يوم ٦ يوليو عام ٩٦٩م، وفي الليل، بدأ العمال والمهندسون والبناءون في وضع أساسات العاصمة الجديدة، حيث بنى جوهر سورًا خارجيًا يحيط بالمدينة من جهاتها الأربع، وطول ما يقرب من ١٠٠٠ متر، بحيث صارت مساحة الأرض داخل هذا المربع الحصين ٣٤٠ فدانًا. وقد تم تقسيم تلك الفدادين ٧٠ فدانًا لقصر المعز لدين الله الفاطمي، و٣٥ فدانًا للبستان، و٣٥ فدانًا للميادين، و٢٠٠ فدان للشوارع والحارات التي ستسكنها الفرق العسكرية القادمة مع جوهر الصقلي، والتي بلغت ما يقرب من ٢٠ خطة على جانبي القصبة العظمي؛ وهو الشارع الذي صار اسمه فيما بعد شارع المعز لدين الله الفاطمي. وأطلق جوهر الصقلي على القاهرة في بداية الأمر «المنصورية»، تيمنًا باسم «المنصورية» التي أنشأها خارج القيروان - تونس حاليًا - للمنصور والد المعز لدين الله، ولم تُعرف المدينة باسمها المشهور «القاهرة» إلا عند قدوم المعز عام ٣٦٢هـ، وهو يحمل رفات أجداده، وخصص لهم تربة داخل أسوار القاهرة إلى جوار باب من أبواب القصر الكبير يُسمى «باب الديلم»، والتربة اسمها «الزعفران». فيما بعد، اندثرت الزعفران على يد أحد أمراء المماليك وهو جهاركس الخليلي، والذي أنشأ مكانها خانًا «سوقًا»، وسُمي خان الخليلي، وهو الموجود حاليًا بجانب جامع الإمام الحسين.
مدينة وقلعة
أصبحت لدينا مدينة تختلف عن سابقيها، فهي محاطة بسور ضخم، قال عنه المقريزي إنه كان من الطوب اللبن يستطيع أن يسير عليه فارسان بجواديهما من ضخامته، فهي حصن، وبها قصر منيف ضخم، وبها الخاصة الملكية، والجنود والقواد.
إذًا، فنحن أمام مدينة ملكية، محاطة بالأسوار، ومغلقة عليها الأبواب؛ بينما كان أهل مصر يعيشون في الفسطاط والعسكر والقطائع، وكان لا يُسمح لهم بدخول هذا المجمع الملكي إلا بتصاريح خاصة، ولا يبيتون فيه، بل تغلق أبوابه مع الغروب بعد إخراج كل من هو ليس من سكانها.
والحقيقة أن «الصقلي» كان له المُبرر لبناء القاهرة بهذا الشكل الذي جعلها أقرب للقلعة منها إلى مدينة سكنية، عكس الفسطاط والعسكر والقطائع التي لم تمر بنفس ظرف القاهرة.
كان الفاطميون من الشيعة، ومذهبهم مُخالفًا لمذهب أهل مصر من السُنّة، ورجح البعض أن «الصقلي» لم يرد أن يفاجأ المصريون بعادات الشيعة المختلفة عنهم في أداء العبادات، سواء في الأذان أو في الخطب المنبرية. كما أراد «الصقلي»، أن يجعل التحاق المصريين بالمذهب الشيعي يأتي اختياريًا وبشكل تدريجي، فترك لهم مساجدهم الجامعة، سواء جامع عمرو بن العاص، أو جامع العسكر، أو جامع القطائع. أيضا، أراد «الصقلي» تحصين القاهرة ضد أي هجمات محتملة من «القرامطة»، وهم فرقة من الشيعة الإسماعيلية، صاحبة حركة اجتماعية وسياسية ضد الدولة العباسية. وذكر «البغدادي» في كتابه «الفرق بين الفرق»، أنهم عرفوا بـ«القرامطة» نسبة إلى «حمدان قرمط»، وعُرف بذلك لقرمطة في خطه أو في خطوته، وإليه تنسب القرامطة.
وقد انشق القرامة من باقي الشيعة الإسماعيلية بعد رفضهم إمامة عبيدالله المهدي، مؤسس الدولة الفاطمية، فنشأ بينهم وبين القرامطة عداء تاريخي ديني، وتحققت نبوءة جوهر الصقلي، وبالفعل حاول القرامطة مهاجمة القاهرة، وقد صدتهم تلك الأسوار الحصينة.
أبواب القاهرة
كان للقاهرة ثمانية أبواب، بابان في كل ضلع، ومن المُرجح أن الصورة المثالية لأسوار المدينة قد اكتملت في زمن بدر الجمالي، حيث كانت الأسوار في زمن الصقلي من الطوب اللبن، وهي التي بنيت عام ٣٥٨هـ-٩٦٩م، وجددها بدر الجمالي في عام ٤٨٠هـ.
تلك الأبواب الثمانية كانت موزعة على الأسوار أو الأضلاع الأربعة للمدينة، ففي الشمال يوجد بابان، وهما باب الفتوح والذي تخرج منه الجيوش فاتحة، وباب النصر، والذي تعود إليه الجيوش منتصرة، وما زال البابان موجودين حتى يومنا هذا وهما من تجديد بدر الجمالي عام ٤٨٠ هـ، وهو الذي وسع عمران القاهرة ناحية الشمال ما يقرب من ١٥٠ مترًا. وفي الجنوب بابان، الأول يُقال له باب زويلة، نسبة إلى قبيلة زويلة التي قدمت مع جيش الصقلي، وسكنت جوار الباب، ولا يزال باب زويلة باقيًا، ويقال له بوابة المتولي، أيضًا، نسبة لأن متولي الحسبة كان يجلس عنده، وقيل نسبة لأحد أولياء الصالحين اسمه المتولي، وكان يجلس جوار الباب، وكان يوجد باب آخر في الضلع الجنوبي للقاهرة يقال له باب الفرج، وقد اندثر الآن. وفي الضلع الغربي كان يوجد بابان، أحدهما باب سعادة نسبة إلى سعادة بن حيان، غلام الخليفة المعز، والذي دخل من هذا الباب لما قدم إلى القاهرة فسمي الباب باب سعادة تيمنًا بقدومه، الباب الثاني في هذا الضلع كان اسمه باب القنطرة، نسبة للقنطرة التي صنعها «الصقلي» أمام هذا الباب فوق الخليج لتعبر من فوقها الجيوش. وفي الضلع الشرقي كان يوجد بابان أيضًا، الأول يقال له باب البرقية، نسبة إلى جماعة من أهل برقة سكنوا إلى جواره، الباب الثاني كان اسمه باب القراطين، جمع قراط وهو بائع البرسيم، وبعد ذلك عُرف باب القراطين بـ«الباب المحروق»، أصابه حريق في العصر المملوكي أثناء هروب ٧٠٠ مملوك من المماليك البحرية بعد مقتل قائدهم فخر الدين أقطاي على يد مملوك آخر تولى الحكم فيما بعد هو سيف الدين قطز. الباقي من تلك الأبواب الآن ثلاثة أبواب، وهم باب الفتوح، وباب النصر في الشمال، وباب زويلة في الجنوب.
القصور المعزية
بنى جوهر الصقلي قصرًا مهيبًا منيفًا لمولاه المُعز على مساحة ٧٠ فدانًا، ثم جاء العزيز بالله بعد المُعز وبنى قصرًا في مواجهته.
صارت المنطقة تلك من شارع القصبة العظمى «شارع المعز» معروفة بـ«بين القصرين»، حيث يوجد في شرق الشارع قصر المعز لدين الله الفاطمي، ويُسمى القصر الشرقي الكبير، وفي الجهة الغربية من الشارع قصر العزيز بالله ويسمى القصر الغربي الصغير، وحاليًا توجد على أنقاضهما مبانٍ أخرى من العصرين الأيوبي والمملوكي. ووصف غليوم، رئيس أساقفة صور ومؤرخ الحروب الصليبية زيارة رسل الملك عموري سنة ٥٦٢هـ إلى الخليفة الفاطمي العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، كي يعقدا معه اتفاقًا بموجبه تدفع مصر للصليبيين ٢٠٠ ألف دينار معجلة ومثلها مؤجلة في نظير أن يدافعوا عن الفاطميين، وقد أورد لين بول بعض من هذا الوصف في كتابه «تاريخ مصر». ويصف «غليوم» تلك الزيارة، قائلًا إن وزير الخليفة العاضد وهو شاور استقبلهم بنفسه، حيث دخلوا إلى قصر له رونق وبهجة، ذو زخارف أنيقة، وله العديد من الحراس، الذين ساروا أمام الموكب رافعين سيوفهم في ممرات طويلة، وأقبية حالكة الظلام.
ثم خرجوا إلى النور، ودخلوا من أبواب كثيرة متتالية، على كل منها عدد من الحرس، ثم وصلوا إلى فناء مكشوف، أرضياته رخام متعدد الألوان، ومحاط بأعمدة من رخام، بها تذهيب خارق، وألواح السقف ذات زخارف مذهبة، ووسط الفناء نافورة، يجري ماؤها الصافي من خلال أنابيب من ذهب وفضة، إلى أحواض وقنوات مرصوفة بالرخام. وفي الفناء ترفرف أنواع لا حصر لها من الطيور، ذات ألوان جميلة نادرة تم جلبها من أنحاء الشرق. وعندما وصل الموكب إلى هذا الحد، تراجع الحراس، وتسلم الموكب مجموعة من الأمراء والعظماء، المقربين من الخليفة، وأكملوا مسيرتهم وسط أفنية رائعة الجمال، أفضت إلى حديقة غناء، بها حيوانات عجيبة بالنسبة للغربين، فهم لم يروا مثلها قط، ثم عبروا أبواب عديدة وتعاريج كثيرة حتى وصلوا إلى القصر الكبير حيث يقيم الخليفة، حيث تمتلئ ساحاته بالمحاربين المدججين بالسلاح، عليهم الدروع تلتمع بالذهب والفضة.
ثم تم إدخال المبعوثون إلى قاعة واسعة بها ستارة كبيرة من خيوط الذهب والفضة وعليها من الجواهر الثمينة ما عليها تقسم القاعة نصفين، ولم يكن في القاعة أحد، وشاور فور دخوله خر راكعًا، وخلع السيف، ثم خر ساجدًا في خشوع.
ارتفعت الستائر بسرعة البرق، وظهر الخليفة الطفل «السلطان العاضد» لأعين الرسل الفرنج المبعوثين وكان على وجه الأمير نقاب يخفيه تمامًا، وهو جالس على عرش مذهب ومرصع بالأحجار الكريمة الثمينة. هذا الوصف السابق والذي ورد على لسان مؤرخ الحملة الصليبية إنما يدل على مدى عظمة وأبهة القصور الفاطمية، حيث تتالى على حكم مصر الخلفاء الفاطميون ابتداء من المعز وحتى العاضد، حيث سقطت الدولة الفاطمية وقامت الدولة الأيوبية.
عمران القاهرة عبر العصور
لما فرغ «الصقلي» من السور والقصور والجامع الأزهر وخط الخطط لفرق الجيش المصاحبة له، حيث نجد حارة زويلة لقبيلة زويلة بالقرب من باب زويلة، ونجد حارة البرقية لأهل برقة، وحارة الروم الجوانية والبرانية لمن صاحبه منهم، وتلك الحارات موجودة بأسمائها حتى اليوم.
وزاد من تحصين المدينة بحفر خندق من جهة الشمال ليحمي المدينة الجديدة، سنجد أن العواصم الثلاث القديمة، وهي القطائع والعسكر والفسطاط صارت خلف القاهرة بعد بنائها إلى الشمال منهم، وكأنها امتداد للقاهرة. وكان محرم على أهل مصر الساكنين في الفسطاط والعسكر والقطائع السكنى في القاهرة، بل من يدخل إليها لا يكون ذلك إلا بتصريح خاص. ثم اتسع بناء القاهرة وتمدد، وكان أول تلك التوسعات هي التي أجرها بدر الجمالي وهو وزير الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، عام ٤٨٠هـ عندما جدد أسوار جوهر ووسعها إلى الشمال والجنوب، حيث كانت أسوار جوهر وهي من الطوب اللبن بعد مرور ١٠٠ عام تقريبًا تساقطت وأصبحت لا تصد أحدًا ولا تمنع داخلًا ولا خارجًا. وقد جددها بدر الجمالي وجعلها من الحجارة ووسعها بحيث ضم إلى القاهرة ما تم بناؤه خارج أسوارها، مثل جامع الحاكم والحارات ناحية باب النصر، والمباني ناحية باب زويلة.
العصر الأيوبي
ثم جاء عصر الناصر صلاح الدين الأيوبي، وفي عام ٥٦٦هـ، توسع في القاهرة، وكان في هذا الوقت لا يزال وزير آخر خليفة فاطمي وهو الخليفة العاضد. وقد وصل صلاح الدين للوزارة في ظروف سياسية حتمت ذلك، حيث إن الخليفة العاضد استغاث بالدولة الزنكية من الصليبيين الذين نقضوا عهودهم وهاجموا مصر، فبعث لهم بجيش على رأسه أسد الدين شيريكوه وابن أخيه يوسف الذي هو صلاح الدين. وبعد أن انتصر أسد الدين شيريكوه وقضى على الوزراء الفاطميين المتصارعين شاور وضرغام ولاه العاضد الوزارة، ثم لما توفي أسد الدين شيريكوه خلفه على كرسي الوزارة ابن أخيه صلاح الدين. وقد توسع الوزير الجديد في القاهرة، وبنى سورًا من الحجر. ولما تولى صلاح الدين حكم مصر بدأ في مشروع قومي ضخم ألا وهو ضم العواصم الأربعة في سور واحد ثم أمر وزيره بهاء الدين قراقوش أن يبني قلعة فوق جبل المقطم لكي تطل على القاهرة بعد أن اتسعت أسوارها وصارت تضم القاهرة الفاطمية التي بناها جوهر، والقطائع التي بناها أحمد بن طولون، والعسكر التي بناها العباسيون والفسطاط التي بناها عمرو بن العاص. وبذلك اتسعت القاهرة اتساعًا كبيرًا في عهده وصار مقر حكم مصر بشكل رسمي هو القلعة حتى عصر الخديو إسماعيل، الذي نقل مقر الحكم إلى قصر عابدين.
عصر المماليك
بعد انتهاء العصر الأيوبي، ورثتهم دولة المماليك بعهديها البحري والجركسي، وظل حكم مصر من القلعة، وتوسعوا أكثر وأكثر، وبنوا الكثير من الدور والمساجد والجوامع والخانقاوات «أماكن تعبد الصوفية»، والمدارس والقصور، فتنامت في عهدهم القاهرة نموًا كبيرًا. ونشأ حي الناصرية في عهد الناصر محمد بن قلاوون، وبالقرب منه شارع آخر وهو شارع باب الوزير، ووصلت بيوت وقصور أمراء الناصر محمد حتى سور القلعة، فكان الناصر محمد يحب أن تكون بيوت أمرائه إلى جانبه، فقد كانت القلعة هي مقر الحكم آنذاك. وقالت الدكتورة هالة الجزيري أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة حلوان عن شارع باب الوزير أنه الحي الأرستقراطي في العصر المملوكي، ففيه "البيمارستان المؤيدي"-والبيمارستان هو المستشفى- و"مدرسة السلطان شعبان" وهي المعروفة بـ "مدرسة أم السلطان"، و"قبة طراباي الشريفي" و"مدفن خاير بك" من ملباي، وهو أول والي عثماني على مصر والملقب بـ "خاين بك"، وبه قصر ألينآقا الحسامي، وبه قبة الباز. وكان كل أمير تقريبًا كان له بيت في هذا الشارع بل إن السلاطين أنفسهم بنوا فيه بيوتًا أو حوله. ومن تلك المباني أيضًا قصران للطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي، وهما من أمراء الناصر محمد، وكان القصران في ميدان الرميلة وهو ميدان القلعة حاليًا، ومكان القصرين الآن مدرسة السلطان حسن ابن الناصر محمد بن قلاوون. وكذلك لدينا في الشارع بيت قايتباي، وهو من سلاطين الجراكسة وحاليًا يسمى بيت الرزاز، وجامع الطنبغا المارداني، ومدرسة أيتمش البجاسي، وعدد كبير من الآثار التي تركزت في هذا الشارع حتى بلغت إجمالًا ما يقرب من ٢٥ أثرًا إسلاميًا.
أصبح الشارع منذ عهد الناصر محمد محط أنظار الكبراء والأمراء، وكان الجميع يرغب بالبناء فيه، وظلت حالة التعمير تلك مستمرة حتى نهايات العصر العثماني، حتى صار الشارع أرستقراطيًا يعج بالمباني للأمراء والوجهاء، وكذلك بالمدارس والأسبلة والجوامع الراقية. ثم جاء من بعدهم محمد علي باشا، والذي كان هو وأسرته له أشد الأثر في نمو القاهرة، حيث أنشأ محمد علي قصره في منطقة شبرا، وأمر أتباعه بتقليده، فنشأ الحي الشهير. ثم قام الخديو إسماعيل بنقل مقر الحكم إلى قصر عابدين، ثم أنشأ القاهرة الخديوية، ثم من بعده جاء البارون إمبان وأنشأ حي مصر الجديدة.
ثم بدأ عصر الجمهورية، والتي فيها اتسع عمران القاهرة بشكل هائل، فبنيت مدينة نصر والسادس من أكتوبر والعاشر من رمضان، وعشرات الأحياء حتى تُوجت ببناء العاصمة الإدارية الجديدة، ليظل اسم القاهرة حيًا عبر العصور والأزمنة، علامة على تاريخ ممتد وتراث ثري وآثارُ خالدة باقية ما بقي الزمن.