توقفت فى المقال السابق عندما بدأ الأستاذ "محمد حسنين هيكل" يَسْرُدُ تجربته الناجحة فى جريدة الأهرام بعد أن وجه إليه عضو المجلس السياسى السوفيتي "سولوسوف" سؤالا وهو كيف تكون جريدة الأهرام جَرِيدَةِ سِيَّاسِيَّةِ جَادَّةِ وَمَشْرُوعًا مَالِيأً نَاجِحًا...؟
وقد بدأ الأستاذ هيكل يتحدث حيث شرح وجهة نظره قائلا:
لا تعارض أن تكون جريدة سياسية جادة وفي نفس الوقت مثيرة للاهتمام ومقروءة...
المشكله التي تواجه بعض الجرائد السياسية تاتي من الخلط بين الجديةوالكآبة أو من تصور ان إثارة الاهتمام مضيعه لإثارة الاحترام...
اشار الكاتب الكبير بأن القارئ يريد الخبر صحيحا ويريده مستوفى وكاملا بما يمكنه من تكوين رأيه المستقل في الاحداث وتطوراتها وبما يسمح له بالحكم حتى على اتجاهات الجريدة التي يقرؤها نفسها...
ثم أبدى الكاتب الكبير رأيه في أن المقال يتراجع في الصحافه الحديثه امام الخبر إلا اذا كان المقال -بقيمة ما فيه من أفكار ووقائع أو بقيمه كاتبه - يرقى إلى مستوى أن يكون خبرا في حد ذاته...
ثم حاول أن يفرق فى سياسة جريدة بين "التزامها بفكر" وبين "إلزامها بخط"...
وقال أن المساحة بين "الالتزام" و"الالزام" هي نفسها مساحه بين "مسئوليه الحرية" و"قيد الرقابة" ثم اشار الى أثر ذلك على ضمير القارئ وأثره بالتالي على الثقة بجريدة يفضلها وبالتالي سعة انتشارها ورواجها...
ثم أضاف بأن مشروع جريدة الأهرام -في ذلك الوقت- يعتبر واحدا من أحدث وأكبر المشروعات الصحفية في العالم وقد جرى تمويله كله ذاتيا ولم يأخذ قرشا واحدا من الدولة ولم يتقدم من أجله بطلب قرض حتى من بنك وكان هذا التزمت مهما لأسرة جريدة الأهرام سواء بالنسبه لحقهم في الاستقلال أو لحقهم في الحريه...
ولكن "سوسلوف" عضو المجلس السياسى السوفيتي كان يرى غير ما يرى الكاتب الكبير في دور الصحافه فالتعبير عن "الحزب" و"الالتزام" بخطة ليس تناقضا - في حسبانه- مع الحرية والاستقلال لأن "الحزب" هو التعبير عن فكر وحركة الجماهير،وليس هناك بأس في أن تقوم دولة"الحزب" بتمويل صحافته لأن الصحافة "أداة توعيه وتثقيف" وأما عن أهمية الخبر في الصحافة والتركيز عليه باعتبار الماده الاساسيه في الجريدة فهو يرى انها - بدعه منقوله عن صحافة الغرب الرأسمالي- وهى صحافة تخاطب غرائز قارئها ولا تسعى لتنمية مداركه"
ومضى الحديث، وتطرق إلى قضايا كثيرة كاقتصاديات الصحف، ومسأله الاعلان والدور الذي تقوم به وكالات الأنباء العالمية ثم من جديد إلى قضيه الخبر والمقال...!
وقال الأستاذ "هيكل" بانه بين الحين والآخر كان يلتف ناحية "اندروبوف" المكلف بِالْإِشْرَافِ على "كى جى بى" أى" لجنة حماية أمن الدوله والحزب " فيجده في كل مرة أشد اهتماما بالحديث وأكثر اقترابا منه إلى درجة انه أزاح مقعده حتى التصق بمقعد "سولوسوف" السائل عن تجربة جريدة الأهرام وفجأة تدخل "اندروبوف" في المناقشه على نحو اثار دهشة الكاتب وقال بابتسامه خافته:
"إن صديقنا يقصد -الأستاذ هيكل- مهتم بالخبر لكنني لم أكن أعرف أن الأخبار كلها في موسكو محصورة في السفارة الكندية هنا"..."يقصد لقاءات الأستاذ "هيكل" بالسفير "روبرت فورد" سفير كندا فى موسكو "
وبعد الغذاء الرسمي قال الاستاذ "هيكل" للرئيس "جمال عبد الناصر" وكانا وحدهما:
-غريبه...! لقد قالوا لي أن "اندروبوف" هو رجل المستقبل في الكرملين لكنه في الملاحظة الوحيدة -التي فتح الله بها عليه- في مناقشة تجربة جريدة الاهرام لم يثبت فيها شيئا سوى انه فعلا رئيس ال "كي جي بي" ومشغول بقراءة تقارير جواسيسه عن تحركات زواره"....
لكن الرئيس "جمال عبد الناصر" قال له:
-لا اظنها مسأله تجسس...
لو كانت كذلك لما قالها لك...هؤلاء ناس يحسبون ما يقولون قبل ان يقولوه... أغلب الظن انها رسالة اليك تلفت نظرك إلى أن لا تصدق كل ما تسمعه من مصادر الغرب... واظنه قالها على هذا النحو لكي تبدو في قالب "اجتماعي" ولو قالها في غير ذلك لبدت لك وكأنها نوع من الضغط عليك"
وصمت الأستاذ "هيكل" لكنه علق بقوله:
- وكان هذا هو أول لقاء عابر مع الزعيم الروسي اندروبوف "
"الأسبوع القادم باذن الله أُحَدِّثُكَ عن اللقاء الثانى للكاتب الكبير مع الزعيم السوفيتي".