وجوه فياضة بالمشاعر الإنسانية الصادقة، تتطلع إلى الحياة الأبدية، تحمل أجمل نظرات لعيون حائرة لرجال ونساء وأطفال، تعبّر عن جميع الأجناس التي عاشت في مصر، وجوه إنسانية مهمة، تصدّرت واجهات المتاحف العالمية، يُطلق عليها "بورتريهات الفيوم".
وجوه الفيوم أو "بورتريهات الفيوم" فن مصري التأثير، يوناني الصنعة، روماني التأريخ، من أجمل الأعمال الكلاسيكية العالمية، تنتمي لمدرسة فنية خاصة، امتازت بخروجها عن الإطار المصري القديم المألوف، خاصة مع انفتاح مصر على العالم الخارجي في ظل الحكم الروماني.
عالم الآثار الدكتور زاهي حواس يؤكد في الجزء الأول من كتابه "آثار وأسرار" أن أكبر وأهم مجموعة من بورتريهات الفيوم عثر عليها الإنجليزي الملقب بأبو المصريات السير "فلندرز بتري"، أثناء حفائره بالفيوم عام 1888م بالجبابة الرومانية بمنطقة هوارة شمال هرم الملك "أمنمحات الثالث" وهي جبانة مدينة أرسنوي، كما كشف عما يقرب من 146 لوحة أخرى.
شهد القرن التاسع عشر العديد من الاكتشافات، حيث تم الإعلان عن اكتشاف مجموعة أخرى في أماكن متفرّقة في سقارة بمحافظة الجيزة ومحافظة الإسكندرية، ومنطقة الشيخ عبادة "أنتيوبوليس" بمحافظة المنيا، وسميت بـ"مجموعات هنري سولت وثيودور ريتر جراف"، ويتخطى أعداد تلك البورتريهات الـ1000 بورتريه، ويتواجد منها المئات في الخارج والتي خرجت من مصر قبل 120 عاما، بسبب المعارض التي نظمها عالم الآثار البريطاني بيتري في العديد من الدول.
وفي عام 2022م، تمكنت البعثة الأثرية المصرية من العثور على مجموعة من "بورتريهات الفيوم"، في قرية جرزا بالفيوم، التي عُرفت بقرية فيلادلفيا في العصر اليوناني، أنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد كقرية مركزية ضمن مشروع الاستصلاح الزراعي الذي نفذه الملك بطليموس الثاني "فيلادلفيوس" في إقليم الفيوم بهدف تأمين مصادر الغذاء للمملكة المصرية وضمت بين جنباتها المصريين واليونانيين مما انعكس على إنتاجها الحضاري.
وتعد البورتريهات المكتشفة هي الأولى التي عثر عليها منذ اكتشاف آخر مجموعة بواسطة عالم الآثار الإنجليزي فلندرز بتري منذ أكثر من 115 عاما، بحسب وزارة السياحة والآثار المصرية.
الباحثة الأثرية بالمتحف المصري بالتحرير نور حسن توضح أن "بورتريهات المومياوات" المعروفة اصطلاحا باسم "بورتريهات الفيوم" أول نموذج عثر عليه حتى الآن يعود لعصر الإمبراطور الروماني "تيبيريوس" الذي حكم في الفترة من عام 14 إلى 37 م، وكان يستعاض عن صناعة الأقنعة أحيانًا برسم لوحات شخصية للمتوفي منذ القرن الأول الميلادي، وهي ما يُطلق عليها بورتريهات المومياوات، غير أن وجود البورتريهات لم يلغ استخدام الأقنعة، ولكنها ظلّت مستخدمة جنب إلى جنب معها.
مُسمى "بورتريهات الفيوم" أطلق خطأ، لأن أول ما تم اكتشافه منها كان من منطقة الفيوم التي تبعد نحو 100 كيلومتر عن القاهرة، سواء مجموعة تاجر الآثار ثيودور جراف، أو المجموعة الكبيرة التي اكتشفها عالم الآثار البريطاني بيتري، حيث لم يتم اكتشاف مجموعات من بورتريهات المومياوات بتلك الكميات بعد سنة 1912م.
"تقنيات الرسم"
"بورتريهات المومياوات" هي في الأساس لوحات من الخشب رفيع السمك ومغلف على الأغلب بالنسيج المغموس في الجص ومغطي بطبقة من الجبس والصمغ وأحيانا كان يتم الرسم على هذه اللوحات الخشبية مباشرة بدون وضع طبقة النسيج.
كان الرسم والتلوين يتم على تلك اللوحات الخشبية بتقنية "التمبرا"، وهي مزج الألوان ببياض أو صفار البيض كوسيط لوني، أو باستخدام تقنية "الانكوستيك" وهي مزج اللون بشمع العسل وملح النطرون المغلي في الماء مضافا لهم الألوان، وهي طريقة يونانية يعود أقدم ذكر لاستخدامها للقرن السادس قبل الميلاد، وانتقل استخدامها الى مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، واستمرت كموضة حتى القرن الثالث الميلادي.
ابتُكرت طريقة تجمع بين التقنيتين وهي طريقة "ألوان التمبرا" وهي طريقة مستحدثة عن طريق "التمبرا" الأصلية الخالية من الأصباغ بإضافة مادة دهنية وكربونات كالسيوم والشمع حتى أن هذه الطريقة أصبحت في الفترة المتأخرة من العصر البطلمي وحتى أواخر العصر الروماني أكثر الطرق استخدامًا وشيوعًا في تنفيذ أعمال الرسم الجداري، واتضح ذلك جليًا على جدران مقابر الجبانة الغربية الأسكندرية على سبيل المثال.
"صناعة البورتريهات"
الأرز والزيزفون واللبخ والجميز"، هي أنواع الأخشاب المستخدمة في صناعة تلك البورتريهات، ورُسمت لوحات الفيوم بأربعة ألوان أساسية، الأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود، وكانت تُستخدم في رسم الشعر والوجه، أما الألوان الإضافية، مثل الأزرق، والأخضر، والأرجواني فاستخدمت في تلوين الملابس والمجوهرات والتيجان، مما شكّل تناغمًا رائعًا.
وقد أُضيف اللون الذهبي إلى المجوهرات والتيجان وزخرفة الملابس، وكانت تستخدم لذلك، إما أوراق الذهب الأصلية، أو لون يُحاكي الذهب، وكانوا يستخدمون بياض البيض للصق ورق التذهيب على اللوحة المرسومة بألوان الشمع، وهو ما ورثته الحضارة البيزنطية فيما بعد.
البورتريه كان يُوضع فوق وجه المومياء ويلف فوقه اللفائف الكتانية ثم يتم قطع وتسوية اللفائف حوله ليصبح مكشوفا ويتم الضغط عليها من الجانبين حتى يمكن أن تتوافق مع محيط رأس المومياء، ولكن مع الأسف لم تكن جميع الأخشاب تستجيب للالتواء وإنما كان بعضها يتعرض للكسر بفعل ذلك الضغط.
"وجوه الفيوم.. والابدية"
تحمل هذه البورتريهات ملامح شخصية واقعية لأصحابها، تأخذ طابعًا مثاليًا إلى حد ما في التعبيرات، حيث أن في كثير من الأحيان تصوّر الشخصيات في وضع الجمود كما لو أن وضعهم كموتى جعلهم مؤلهين وليسوا بشر، ويعتقد أن هذا الأسلوب يؤرخ بالعصر الروماني ليس قبل ذلك، فهو فن مصري التأثير يوناني الصنعة روماني التأريخ.
الروائي الفرنسي "أندريه مالرو"، يرى أن نظرة هذه الوجوه تتطلع للأبدية، فالموتى عن طريق هذه اللوحات يظلون على قيد الحياة بالرغم من موتهم فيبدو الموت حيًا خالدًا وهذا هو الهدف الذي صورت من أجله هذه الوجوه في نظر أصحابها.
تصوير التعبيرات النفسية والمشاعر الإنسانية المختلفة مثل الحزن والهدوء والتأمل على هذه اللوحات كان يتم وكأن أصحابها أحياء؛ الأمر الذي دفع عالم الآثار البريطاني بيتري، في الاعتقاد أن هذا النوع من الفن الجنائزي، كان يُنجز أثناء حياة أصحابه وليس بعد الموت كما يرى البعض، ووصل الأمر أحيانا إلى تجسيد الورع والزهد في المراحل المتقدمة خاصة بعد انتشار الدين المسيحي بين المصريين.
عالم الآثار الدكتور رامي المراكبي، ومفتش آثار بمحافظة الفيوم يؤكد أن الآراء انقسمت حول ما إذا كانت ترسم هذه الصور لأصحابها أثناء حياتهم أو بعد وفاتهم مباشرة أثناء فترة تحنيط الجثة، فالبعض يؤكد أن هذه اللوحات تُرسم لأصحابها أثناء حياتهم حيث تظهر دائمًا الحيوية والشباب، وهو الرأي الغالب.
فلابد أن هذه اللوحات كانت ترسم لأصحابها أثناء حياتهم ثم ترسل إلى المُحنّطين بعد ذلك، ويبدو ذلك من التصوير الذي يُبرز أصحابها في حيوية بحيث لا يستطيع الفنان أن يرسم هذه الصور من الذاكرة، بينما يُرجّح البعض أن "بورتريهات الفيوم" كانت تُرسم لأصحابها بعد وفاتهم مباشرة، على قائمة مكتوبة بخط سريع يُذكر فيها الفنان ملامح الوجه خلف اللوحة، كما أن بعض الصور شُكّلت بحيث تتفق مع الفتحة التي تترك عند لف المومياء بعد التحنيط وهي مكان الرأس تمامًا.
"المسيحية.. واختفاء البورتريهات "
"صور الفيوم" هي تجسيد لعقيدة مصرية خالدة للاعتقاد في الحياة الأبدية، لذلك كانت تُقام عملية التحنيط للمحافظة على جسد الموتى، وكانت تُزوّد المومياء بتمثال يحفظ ملامح الوجه أو قناع يوجد فوق المومياء، و"وجوه الفيوم" هي آخر تطور لتلك الفكرة.
استمرت صناعة بورتريهات المومياوات حتى قلت تدريجيًا في القرن الرابع الميلادي مع انتشار الديانة المسيحية وتحولها لدين رسمي للإمبراطورية، ومن ثم التوقف عن تحنيط أجساد المتوفيين تبعًا لتعاليم الدين الجديد.
وفي عهد الإمبراطور "ثيودوسيوس الثاني" صدر مرسوم سنة 410 ميلاديا يقضي بدفن الموتى بملابسهم العادية بدون تحنيط، إلا أنه استمر في الخفاء، والدليل على ذلك استمرار العثور على بعض المومياوات المحنطة في أسوان، وإن كان تحنيطا جزئيا غير كامل والتي تعود للعصرين القبطي والإسلامي، وهذا يعني أن التحنيط منع تمامًا بعد الفتح الإسلامي لمصر على يد القائد عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي.
المتحف القبطي بمُجمّع الأديان بالقاهرة التاريخية يوجد به نموذج لغطاء مومياء من الخشب والكارتوناج المزين بالأيقونات وله بورتريه لرجل مؤرخ بالفترة ما بين القرنين السادس والسابع الميلادي، فضلا عن ظهور فكرة الأيقونات الخشبية التي اتبع فنانوها نفس تقنيات صناعة ورسم وتلوين البورتريهات في البداية أثناء تنفيذها.
"رسامو البورتريهات"
اختلفت الآراء حول رسامي وجوه الفيوم، فأحد الآراء يقول أن فنانين مصريين رسموا لوحات الفيوم، استعملوا في رسمها قواعد المدرسة الإغريقية الفنية التي هيمنت على فنون الشرق، حيث خرجت "بورتريهات الفيوم" عن الإطار المصري القديم.
وهو ما يؤكده الدكتور عزت حامد قادوس أستاذ الآثار اليونانية الرومانية بجامعة الاسكندرية بقوله، أن الفنان كان ملتزما ببعض الأصول الفنية المصرية القديمة، حيث أبرز ملامح الشخص دون أن يعتمد على تفاصيله التشريحية، كما كان مستبعدا أن تعمل فئة أجنبية في أعمال هي من صميم عقائد المصريين الجنائزية.
فيما يرى الرأي الأخر أن الفنانين اليونانيين عملوا في مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد، عندما ظهرت مدينة "نقراطيس" وموقعها اليوم قريب من إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، وهي أول مدينة يونانية تحمل الروح المصرية، وبعد فتح الإسكندر الأكبر لمصر عام 332م قبل الميلاد، حيث بدأت هجرة الفنانين من اليونان إلى مصر على نطاق واسع.
وتُعد الواقعية الصفة الرئيسية المميزة لـ"بورتريهات الفيوم"، والتي انتقلت بشكل مباشر من الفنان "أبيلليس"، الرسام المفضل للإسكندر الأكبر، عن طريق مدرسة الإسكندرية، وعندما بدأ الفنانون في رسم بورتريهات الفيوم كانت يونانية صرفة في بادئ الأمر، ولكن سرعان ما اندمجت واتحدت مع الفن المصري القديم.
كتاب "بورتريهات الفيوم" للدكتور عزت حامد قادوس أستاذ الآثار اليونانية الرومانية بجامعة الاسكندرية، يوضح أن راسمي لوحات الفيوم هم فنانون مصريون استعملوا في رسمها قواعد المدرسة الإغريقية الفنية، التي هيمنت على فنون الشرق، كما اتسمت وجوه الفيوم بالإطار الفرعوني والأصول الفنية المصرية القديمة.
وترجع قلة الكتابة عنها إلى عدد من الأسباب، أهمها أن الفنانين الذين رسموها مجهولون، وأنها لوحات مُبعثرة في العالم، وأحيانا في عدة قاعات من المتحف نفسه، ما بين الأقسام المصرية، واليونانية، والقبطية، وتنتشر "بورتريهات الفيوم" في المتحف المصري بالقاهرة، والمتحف البريطاني في لندن، ومتحف المتروبوليتان بنيويورك، ومتحف اللوفر في باريس وغيرها من المتاحف حول العالم.
"بورتريهات الفيوم.. ثورة فنية"
"وجوه الفيوم" فن شعبي محلي لكنه كان علامة فارقة في تاريخ الفن، ويؤكد الفنان التشكيلي الكبير محمد عبلة، أن "وجوه الفيوم" تعتبر ثورة في فن رسم البورتريه، وفيها رُسِم الوجه كاملًا من الأمام، وملتفتًا في بعضها قليلاً إلى اليسار، فالتعبيرات التأثيرية كلها مُستخرجة منها، وهي أثار مصرية عظيمة لا يوجد لها مثيل في العالم.
ويصف الفنان الكبير "بورتريهات الفيوم" بأنها "حالة مُتفرّدة" في تاريخ الفن الإنساني، إذ كان الأحياء يطلبون رسمها لتلصق على توابيتهم بعد الموت، فكانت أقوى حالة تعبيرية عن الحزن والوفاة والرحيل المبكر.
ماجد الراهب رئيس جمعية المحافظة على التراث، يرى أن البورتريه يُعتبر من أصعب الفنون من حيث تكنيك العمل، ويؤكد أن كثيرين ينسبون بورتريهات الفيوم لليونانيين أو الرومانيين الذين عاشوا في مصر، بعد دخول المسيحية، وهذا غير صحيح، حيث لم تظهر لوحة واحدة مماثلة لها بأي مكان في العالم سوى مصر.
"بورتريهات" الفيوم كانت بداية لإنطلاق فنون أخرى انتشرت في العالم، أهمها فن الأيقونات، والتي تُعد من أساسيات الفن القبطي، وتعود للقرون الأولى من ظهور المسيحية، وبدأت في الانتشار عقب اختفاء بورتريهات الفيوم بسبب تكلفتها الكبيرة في الرسم".
"بورتريهات الفيوم" ما زالت تفيض بالحياة وكأنها تعيش بيننا، ومن ينظر إليها يشعر وكـأنها تمتلكه وتحتويه وترمقه بنظراتها الحائرة الغامضة، جاءت وجوه الفيوم كمزيج بين ثلاث حضارات مصرية قديمة ويونانية ورومانية، فأثروا وتأثروا ببعضهم البعض فانتجوا أعظم الفنون، فهي لم تكن مجرد صورًا شخصية فقط، ولكنها وثيقة تاريخية تعكس حياة بأكملها وتؤرّخ للفكر الثقافي والحضاري والاجتماعي للمجتمع المصري في العصر الروماني بأشكاله المختلفة.