تقوم ثقافة التخلف على خاصية جذرية لا تفارقها، فهى ثقافة «عينها فى قفاها»، لا وجود للمستقبل فى أى مستوى من مستويات إمكانه أو حضوره فى وعيها الجمعي، فالماضي هو نقطة البدء والمعاد فى حركة هذا الوعي. والمستقبل يظل غامضًا، متجاهلًا، لا تفكير فيه إلا بمنطق ما سبق وقياسًا عليه.
والتفكير المستقبلي، أو التخطيط لاحتمالاته، أو الاستعداد لما يمكن أن يعد به، أمور لا وجود لها فى هذا الوعي المسجون في المدار المغلق للماضي الذي لا يكف هذا الوعي عن إعادة إنتاجه. والخوف من الجديد الغريب، أو التجريب الذى يناقض المألوف، أو العلم الذى ينطلق من الاختلاف، هادفًا إلى اكتشاف ما لم يسبق اكتشافه.
أمور مرفوضة فى هذا الوعي الذي يعادى كل مغايرو جذرية، ويستأصلها معنويًا أو ماديًا، كى يعود كل شىء إلى سابق عهده، فلا جديد تحت الشمس فى مدى هذا الوعى، وما نقول إلا معادًا مكرورًا، فقد ذهب الأقدمون بالفضل كله، ولم يتركوا للاحقين سوى الرقص فى سلاسلهم، أو الدوران فى الدوائر المغلقة المحددة من قبل.
هكذا كان يردد جابر عصفور في كتابه المهم «نقد ثقافة التخلف».. والذي عاش حياة حافلة خاض خلالها معارك فكرية عدة، إلى جانب إسهاماته الرسمية في المناصب المختلفة التي تولاها، حيث كان رئيس المجلس القومي للترجمة، وأمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة، وتولى وزارة الثقافة مرتين. وبرغم أن آراء «عصفور» أثارت من الجدل الكثير، كونها وقعت في دائرة الاستقطاب بين الحداثة والمحافظة، فإن الرجل حظي بتقدير واسع من تلامذته وقرائه، حتى أن البعض وصفه بالحفيد الشرعي لطه حسين، كونه تتلمذ على يد الدكتورة سهير القلماوى تلميذة الدكتور طه حسين.
جابر عصفور هو أحد أبناء مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية شمال مصر، حيث ولد في ٢٥ مارس ١٩٤٤ وكانت وفاته في القاهرة ٣١ ديسمبر ٢٠٢١، تخرج في كلية الآداب عام ١٩٦٥، وفي العام التالي لتخرجه عُيّن معيدًا بكلية الآداب، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه ليبدأ مسيرة أكاديمية مميزة، تُوجت بأن أصبح أستاذًا زائرًا في كبرى جامعات العالم مثل: هارفارد، ويسكونسن-ماديسون.
وترك لنا مجموعة كبيرة من التلاميذ لهم قدرات متميزة، وتحفل بهم الجامعات المصرية والعربية الآن، مثل: حسين حمودة، وطارق نعمان وغيرهما العشرات، كما قدم عصفور مجموعة من الكتب الأكاديمية المتميزة، سواء في التراث العربي النقدي، أو عن الدكتور طه حسين في رسالته للدكتوراه، ومن أهم مؤلفات عصفور: محنة التنوير وأنوار العقل وزمن الرواية وغواية التراث والنقد الأدبي والهوية الثقافية ونقد ثقافة التخلف وتحديات الناقد المعاصر وزمن جميل مضى وفي محبة الشعر وهوامش على دفتر التنوير.
وكان لـ«عصفور» اهتمام خاص بقضية التنوير، انعكست على كتاباته، وحاول من ترجمات المشروع القومي للترجمة في مرحلته الأولى أن ينقل للعربية معظم الكتابات في هذا الإطار. هذا الذي تبناه عصفور قدم للعربية كتابات حداثية من الإنتاج الأوروبي في مجالات متباينة وبلغات مختلفة من خلال عدد من المترجمين البارعين، وأسهم المشروع في إنجاز عدد كبير من الترجمات الراقية والمحترمة والمتنوعة.
نقد ثقافة التخلف
يعد كتاب «نقد ثقافة التخلف» واحد من أهم الكتب التي تتحدث عن ثقافتنا العربية وربط الحاضر بالماضي، والقارئ للكتاب يعثر على الكثير من الأسباب التي تعيق نهضتنا وتقدمنا، وتمنع مواجهتنا لقضايا العصر ومشكلاته مواجهة حرة. ولا يترك هذا الكتاب وجهًا من وجوه قصورنا وتخلفنا سواء في الماضي أو الحاضر إلا ويعرض له، وكل هذا يجعل من الكتاب مرجعًا لا غنى عنه للباحث والمصلح على السواء.
ويزيد في أهميته إحاطته الشاملة لما يتصدى له. فهو يتحدث عن «الأنوثة المقموعة»، و«ثقافة الاتباع»، و«الهوس بالماضي»، و«العداء للآخر»، و«الحكام»، و«خطاب العنف»، و«العداء للفنون»، و«مخاطر الدولة الدينية»، وكله فصول تقع في صميم ما ينبغي أن تعرض له المجتمعات وهي تعبر من الماضي إلى المستقبل.
يقول عصفور: «أتصوّر أن المساءلات الجديدة كالأسئلة المراوغة كانت مصدر إقلاق للذهن العربي التقليدي الذي استقرّ على ما هو عليه، خصوصا أن هذا الذهن لم يكن قد اعتاد على الأسئلة الصعبة الجسورة، ووجد في الاحتمالات التي تفتحها الإجابات، أو تناوشها الأسئلة، مصدرًا للقلق والحيرة، وباعثًا على إعادة التفكير في ما استقر عليه السلف، وهو أمر أربك النسق الفكري القائم، ودفع إلى نوع من المقاومة أو الاستجابة السلبية، وكانت هذه المقاومة كالاستجابات السلبية بمنزلة آلية دفاعية تحفظ على الأنساق الفكرية المتوارثة ثباتها، وتبقي الأنظمة الملازمة لها على حالها، فتصون للذهن عالمه الذي ألفه وحقق مصالحه وظل يجد فيه مراحه النفسي والعقلي».
وعن نزعة الاستغناء عن الآخر يقول «عصفور» وإلى اليوم، لا تزال نزعة «الاستغناء عن الآخر» نزعة سائدة في فكرنا ومجتمعاتنا وهي نزعة عربية قديمة استغنت بعلوم العرب وأشعارهم عن علوم الأوائل أو علوم العجم وإبداعاتهم.
وانتصار السيرافي للنحو العربي الذي يستغني به عالمه عن «منطق اليونان» هو الوجه الآخر من اكتفاء المتأدبين العرب بالشعر وعدم تطلعهم إلى أي شعر غيره. ومن الطريف الإشارة إلى أن أحد الكتّاب القدماء ألف كتابًا عنوانه: «مضاهاة أمثال كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب».
وغاية الكتاب رسالة تقول للقارئ: «ما تكاد توجد حكمة تؤثر، ولا قول يسطّر، ولا معنى يُجبر، إلا وللعرب مثل معانيه، محصورًا بقوافيه، موجزًا في لفظه، مختصرًا في نظمه، مخترعًا لها، ومنسوبًا إليها».
وقد قُمع الآخر المختلف في الماضي كما يُقمع اليوم. وكثيرة هي الأمثلة على ضيق صدر الأقدمين بالمختلفين معهم وقمعهم. يقول عصفور: نحن نعرف مثلا ما فعلته خلافة أبي العباس السفّاح بخصومها، وما فعله عهد المنصور بأمثال أبي حنيفة النعمان وابن المقفع الكاتب وسديف الشاعر من جلد وسجن للأول وقتل للثاني والثالث.
ونعرف ما حدث من قتل بشار بن برد وحماد عجرد وسجن لأبي العتاهية في خلافة المهدي، وتعذيب أبي الفضل البلخي وسجن ذي النون المصري المتصوف واضطهاد المعتزلة ومطاردتهم منذ عهد المتوكل، والتمثيل بجثة الحلاج بعد قتله عام ٣٠٩هـ. والقائمة طويلة وهي تكشف السياقات التي كان يتحرك داخلها حاملو الأفكار "الأخرى" المختلفة من الشعراء والكتّاب والمتفلسفة والمتصوفة، فلا تعايش مع المختلف بل قمع له.
ولا شك أن الخوف من «الجديد» هو وراء اضطهاده. إن العلم النافع هو التقيّد بالمأثور والأخذ عن السلف والتقليد في كل علم. ولكن آخرين رفضوا هذا المنهج ومنهم شيخ الإسلام الشوكاني المتوفى سنة ١٢٥٠هـ.
فمما ذكره في كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع": "إن الله - وله المنّة - قد تفضّل على الخلف كما تفضّل على السلف بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية، على اختلاف أنواعها، من يقلّ نظيره من أهل العصور المتقدمة به".
لذلك يقول عصفور إن ازدهار الإبداع العربي، سواء في النثر والشعر، كان موازيًا لازدهار الفكر العربي والتيارات العقلانية والنزعات التجريبية، كما كان انحداره موازيًا لانحدار هذه التيارات والنزعات التي تجاوبت معه في الحيوية، كما تجاوب معها في الجمود والتقليد الجامد الذي أحال الابتكار الشعري إلى عقم كامل.
ومن نبذ الأخر إلى التمييز ضد المرأة، فقد أصاب المرأة العربية في ثقافة التخلف، قديما وحديثا، أذى كثير، تغدو المرأة في هذه الثقافة الشائعة عورة، ناقصة عقل ودين، مصدر الغاية والفتنة التي يستفاد منها، والتي لا يفارقها سوء الظن بها. ولذلك نقرأ في المعاجم العربية القديمة أن الأفن هو النقص الملازم للنساء، ويستدل عليه بقول منسوب إلى علي رضي الله عنه: "إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن"، والأفن، بالتحريك، ضعف الرأي والحمق. ومن اللافت للانتباه أنه لا يوجد كتاب موسوعي من كتب التراث إلا ويحكي عن مواقف، ويروي أقوالا، تنطلق كلها بتجذر التمييز ضد المرأة في ثقافتنا التي لايزال يغلب عليها الاتباع والتراتب الذي يمايز بين الرجل والمرأة على الإطلاق، في العلم والأدب والفكر. ويرتبط بذلك ما نراه اليوم من سوء الظن بالمرأة وتمييز واقع ضدها، ربما لا نجد أكثر منه في كتب التراث التي غلب عليها الاتباع.
وأفردت فصولًا عديدة لتأكيد صور هذا التمييز الذي تسابق القدماء في التأليف فيه وذلك من مثل كتاب: "ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار". وعنوان الكتاب يدل على ما فيه. وتزودنا الكتب الموسوعية في التراث بمادة غزيرة تنطق بازدراء المرأة وهي مادة تدل على غيرها الذي ينطق وعيًا معاديًا للمرأة، في سياق متصاعد، ينتهي بتحريم الكتابة عن المرأة، وذم الكتابة إذا تولاها النساء.
نقد النقد
اهتم جابر عصفور بالتأصيل لعدد من المفاهيم الحديثة التي تفتح لنا مجالات معرفية مختلفة من بين هذه المفاهيم مفهوم "نقد النقد" الذي عرفه بأنه قول آخر في النقد يدور حول مراجعة القول النقدي ذاته وفحصه، ومراجعة مصطلحاته وبنيته التفسيرية وأدواته الإجرائية.
ويوضح جابر عصفور أن ممارسة نقد النقد من الممكن أن تكون على شاكلتين: الأولى نقد العمل النقدي، حيث المقالات المقدمة لنقد الأعمال الأدبية، والثانية الحركة النقدية بصورة عامة، على غرار الأعمال التنظيرية الخاصة بالتنظير في الأدب والفنون.
ولفت عـصفور إلى أن تاريخ نقد النقد يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، إذ تطور حتى مرحلة البلورة، فظهرت كتابات طه حسين وعباس محمود العقاد، فيما برز في الغرب منذ العقد الســـادس من القرن العشرين، حتى تبلور المصطلح في إطار تنظيري في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
حيث ظهرت الدراسات والأبحاث التي تتضمن مصطلح "نقد النقد"، وهو بحث معرفي موضوعه النقد الأدبي، ويتقاطع في مباحثه مع جملة من السياقات المتصلة بالبحث في ميدان الإبداع بصورة عامة، مثل النظرية والتنظير النقدي. ونقد النقد يدور حول مراجعة "القول النقدي" ذاته، وفحصه، بمعنى مراجعة مصطلحات النقد وبنيته المنطقية، ومبادئه الأساسية وفرضياته التفسيرية، وأدواته الإجرائية.
ويعد كتاب عصفور "قراءة في النقد الأدبي" واحد من الكتب المهمة في مجال "نقد النقد"، أو النقد الشارح على حد تعبيره، والذي ركز فيه على مفاهيم الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، وقد خصصه لنقد نقد التراث الشعري العربي لدى شعراء ومنظري كل من مدرسة "الإحياء"، ومدرسة "الوجدان".
رؤية جابر عصفور في هذا الكتاب استحوذت على قدر كبير من تصوراته في قراءة النقد الأدبي، وخاصة ما يتصل بمكونات الخطاب وخلفياته؛ لأنه يحول عملية القراءة إلى تفاعل مع الحالة التي يتناص معها، وهذا التفعل بدوره ينتج مجموعة من المكونات العلمية والثقافية التي يطرحها أثناء القراءة.
وبالتالي تتحول عملية قراءة النقد إلى رؤية جديدة تتفوق على الحالة نفسها؛ لأنها تتضمن مكونات الحالة الأساسية، مع الحالة الأولى، بالإضافة إلى مكونات الحالة الراهنة وما يتفاعل معها. ونجد أن روح التأصيل العلمي والفكري التي تستحوذ على رؤية جابر عصفور قد ظهرت بصورة جلية في كتاباته عامة، وخاصة تلك التي تعاملت مع التأسيس الفكري والنظري للأدب، فجاءت هذه الروح لتؤكد ارتباطه ارتباطًا وثيقًا بالتفكير النقدي القائم على شرح المكونات والظواهر، وربطها بما يلائمها من نظر فكري وتنظيري. ومن هنا أسهم جابر عصفور بقدر كبير في تنقية التراث النقدي، وربطه بالمكونات المعاصرة للنظرية الأدبية؛ ليشكل روحًا جديدًا في فهم النص والتعامل معه، علاوة على التأسيس – أيضًا – لنص أدبي جديد يرتبط بواقع الإنسان المعاصر وتطوره الفكري.
وجاءت قراءة عصفور لأهم عناصر النظرية الأدبية في الشعر، وهو عنصر الخيال، من خلال رؤيتين إحيائيتين في بيئتين عربيتين مختلفتين، الأولى في مصر، والبحث في نقد الإحيائيين ورؤيتهم لمسألة الخيال، والثانية في تونس، وتتصل برؤية أبي القاسم الشابي وخياله المحلق من خلال المقارنة الفاعلة بين كتابه عن الخيال الشعري عند العرب وكتابات إحيائية معاصرة.
مواجهة الإرهاب
حينما زادت وتيرة العمليات الإرهابية في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي كان جابر عصفور حينها رئيسا للهيئة العامة للكتاب، وفي مواجهة الإرهاب على المستوى الفكري قام بتدشين سلسة "المواجهة" التي كانت تباع بسعر زهيد جدا حوالي ٢٥ قرش تقريبا، استطاعت هذه السلسلة أن تنتشر بشكل كبير في القرى.
وكانت تضم كتابات لطه حسين ورفاعه الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهم من مشاعل التنوير في مصر والعالم العربي وأصدر عصفور كتاب "مواجهة الإرهاب" والذي تناول فيه قضية من أهم القضايا التي تمس حياة الإنسان المعاصر في مصر والعالم العربي، بل وتمس أهم منطقة من مناطق وجوده، وهي الفكر.
وخاصة حينما يتحول الإنسان بفعل هذا الفكر ذاته أو بفعل المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أداة من أدوات الفكر أو يصبح كافرًا بهذا الفكر، ومن ثم كافرًا بنعمة الحياة؛ حيث يضيق معناها عنده أو يتحول معناها إلى مجرد رمز أو طاعة لهذا الفكر، وتُمحى لديه الملكة المبدعة لتبدأ عملية الهدم من الداخل.
فكتاب "مواجهة الإرهاب" يركز منذ بدايته على أهم الأسباب التي أوجدت هذا النوع من الفكر المتطرف، مواجهًا بذلك آليات صنع المتطرف، بما في ذلك المؤسسات التربوية. وقد ظهر هذا جليًا في التأصيل الذي قدمه عصفور عن موضوع المثقف التقليدي، الذي أسس وجوده بشكل أو بآخر لوجود المتطرف. ومن ثم يرصد عصفور آليات وجود الثقافة التقليدية التي تؤثر الحنين إلى الماضي بدل الاندفاع إلى المستقبل في مغامرة الإبداع الخلاق التي لا حدَّ لوعودها.
ينتمي جابر عصفور في خطابه النقدي إلى قائمة نقاد الحداثة، بل إنه يأتي على رأس هذه القائمة. وهؤلاء يجنح الكثير منهم إلى لغة غير مفهومة في أحيان كثيرة، حتى إن النص يستغلق أكثر بهذا النوع من الكتابة.
ولكن عصفور يقدم نقدًا صافيًا، لغته تواصلية، تقدم إضاءات تضاف إلى النص وتضعه في سياقه العام والخاص، وتستجلي جوانبه المختلفة التي يقدمها وعينه على المتلقي الواعي بقدرة النص الإبداعي على التواصل، وبقدرة النص النقدي على إيجاد صلة تضاف لقدرة النص المنقود.
هوامش على دفتر التنوير
يتناول جابر عصفور في هذا الكتاب التنوير داخل المجتمع المصرى، ومصير هذا التنوير فى حربه مع القوى الظلامية، والكتاب لم يكن بحثًا علميًا بقدر ما هو مجموعة من مقالات الرأى تعبر عن وجهة نظر صاحبه.
يقول "عصفور" فى مقدمة كتابه "الدولة الحديثة التى نتوهم أننا نستظل بها لم تصل إلى أفقها التحديثى الذى يصون المجتمع المدنى ويحميه، ومؤسسات المجتمع المدنى يتم اختراقها على نحو متصاعد من قوى يحركها العداء اللاهب للمجتمع المدنى، وتقاليد العقل تستبدل بها تقاليد النقل، وشعارات الاتباع تكاد تقضى على أحلام الإبداع".
ولقد ضم عصفور في هذا الكتاب العلم والتسامح والعقل والدولة المدنية في جانب، والتنوير والخرافة والتعصب والدولة الدينية في جانب آخر، وأشار إلى أن حركة التنوير التي بدأها رفاعة الطهطاوي في مصر وصار عليها من صار وعاونه من عاونه بدأت الآن في التقهقر أمام قوى الظلام وأنياب الدولة الدينية.
أما عن أسباب ازدهار قوى الظلام، القوى المستبدة، فيقول "هكذا وصلنا إلى ما نحن عليه ثقافة النقل تقمع ثقافة العقل مدافعة عن أبنية تسلطية سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وتحت رعاية دول لا تنطوي على قيم الحرية والعدل ولا تعترف بحق الاختلاف أو مبدأ تداول السلطة أو ضرورة الفصل بين السلطات".
وكان الهدف الرئيسي لهذا الكتاب -مثلما ذكر "عصفور"- هو إيجاد آليات مستنيرة لمواجهة إظلام الحاضر، حيث سخر الكتاب للبحث في ميراث التنوير الذي بدأ في الماضي، فعصفور بدا من خلال هذا الكتاب شخص مؤمن بالدولة المدنية بكل ملحقاتها من علم وإعمال للعقل وديمقراطية حقيقية وأخلاقيات تبث ثقافة التسامح والتعايش السلمي.
مقتطفات من كتاب ثقافة التخلف
تقترن ثقافة التخلف بالمجتمعات الساكنة، الثابتة، المعادية للتغير، وترتابها الاجتماعى صارم، لا يسمح بالحراك الحر أو الانتقال الميسور بين الطبقات والشرائح الاجتماعية، ففراد كل طبقة أو شريحة اجتماعية تظل أسيرة ما هى فيه، غير مسموح لها بالانتقال إلى غيره، خصوصًا الأعلى.
تقوم ثقافة التخلف على خاصية جذرية لا تفارقها، فهى ثقافة عينها فى قفاها، لا وجود للمستقبل فى أى مستوى من مستويات إمكانه أو حضوره فى وعيها الجمعى، فالماضى هو نقطة البدء والمعاد فى حركة هذا الوعى.
الفكر لا يرتقى إلا بالاختلاف والحوار والمساءلة، والإيمان الجذرى بأنه ما من أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، أو ينوب عنها دون غيرها، ونسبية المعرفة التى ينبغى أن نبدأ التسليم بها هى الأصل فى الاختلاف التى تثرى به الأفكار.
حتى لو تغير نظام الحكم لسبب أو آخر، فإن ثقافة التخلف تظل باقية تؤدى الأدوار الفاعلة نفسها، فتدعم أى نظام جديد، مهما كانت طبيعته، ما ظلت البنية الأساسية لعلاقات الدولة والمجتمع وخصائص الثقافة متماثلة، أو متجانسة.
أصبح الخطاب الدينى السائد معاديًا للعلم فى زمننا، وللانفتاح على الآخر المغاير لنا فى الملة، تنشأ ثقافة التخلف من تفاعل أوضاع التخلف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية، ولكنها تتحول من نتيجة لهذه الأوضاع المترابطة إلى سبب لاستمرار الأوضاع نفسها.
هدفها الأول فى ذلك التبرير لا التثوير، الحفاظ على الوضع القائم لا تغييره، الانتقال بأهداف التبرير من جيل إلى جيل، ومن زمن إلى زمن، ما ظلت البنية الاقتصادية السياسية الاجتماعية المعرفية التى أنتجتها واحدة، باقية لا تتغير، كما لو كانت تؤدى دور المولّد الذى يعود ليتولد من جديد من نواتج إنتاجه وإعادة إنتاجه المستمرة.
إن كل خطاب دينى صورة لعصره مرآة لزمنه، يتخلف فى أحوال الهزائم والانكسار والتراجع، فضلًا عن انتشار الفساد الذى يقترن بالدولة التسلطية، ويتقدم فى الأحوال المناقضة، حين تعمل الأمم من أجل مستقبل واعد، فى أفق مفتوح من الشفافية ونزاهة الحكم الحريص على التعددية والتنوع، المفتوح على كل تجارب العالم المتقدم التى يأخذ منها بقدر ما يضيف إليها فى مدى التنوع البشرى الخلاق.
تغدو المرأة في هذه الثقافة الشائعة عورة، ناقصة عقل ودين، مصدر الغاية والفتنة التي يستفاد منها، والتي لا يفارقها سوء الظن بها
كتاب عصفور «قراءة في النقد الأدبي» واحد من الكتب المهمة في مجال «نقد النقد»، أو النقد الشارح على حد تعبيره، والذي ركز فيه على مفاهيم الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي.